السيرة النبوية | 1. ماذا نستفيد من حفظ نسب النبي وفهمه؟
بداية،sssss لا يسعنا إلا أن نأتي على ذكر ما يحدث في غزة هذه الأيام. وعلى كل حال، يجب أن أقول إنكم تعرفون تائية الإلبيري لطالب العلم، وهي إحدى القصائد المشهورة التي أنشدها أحد الأئمة الأندلسيين في طالب العلم. وهي قصيدة طويلة وجميلة ينبغي أن يعرفها طالب العلم، ولكن ما يهمنا منها هو قوله:
"إذا ما لم يفدك العلم خيرا
فخير منه أن لو قد جهلت
وإن ألقاك فهمك في مهاوِ
فليتك ثم ليتك ما فهمت"
العلم يُطلب للعمل، وهناك كتاب جميل جدًا للخطيب البغدادي عنوانه "اقتضاء العلم العمل" أتمنى أن تقرأوه جميعا. فالقصد يا أحباب، أن هذا الدرس أو غيره من الدروس إذا لم يكن يساهم في تغيير حال الأمة من حالها التي هي عليه الآن إلى حال أفضل منه، فهذا الدرس لا فائدة فيه، لا في القائل ولا في المستمعين. فهذا أمر يجب أن يكون مستحضرا دائما، في أن العلم يُطلب للعمل، وأننا نتعلم لنعمل، كما بوب البخاري في أول كتابه "باب العلم قبل القول والعمل".
ما يحدث الآن في غزة، وما يحدث في فلسطين، وما يحدث في غيرها من البلاد هو ثمرة لضعف هذه الأمة وثمرة لنسيانها الأمانة التي كانت حُمّلت إياها. وأنتم لا شك تعرفون أن الله تبارك وتعالى منذ أن غرق فرعون، حَمّل أمانة الرسالة لقوم يحملونها. فالله لم يعد بعد ذلك الوقت يُنجي المؤمنين بمعجزات أو يُهلك الظالمين والكافرين بمعجزات، وإنما تحمّل الأمة الرسالة. فهذه الأمة إن جاهدت كان الله في عونها وأمدها بالمعجزات، فإن لم تجاهد غُلِبت هذه الأمة وقُهرت حتى لو أنها تحمل الرسالة وتحمل كتاب الله.
ولذلك، بنو إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، رغم أنهم الأقرب إلى الله، إلا أنهم حينما انحرفوا سلط الله عليهم العماليق جالوت، وأخرجوهم من الأرض المقدسة، وانتزعوا منهم مقدساتهم. وتجربة بني إسرائيل أطال القرآن الكريم في بيانها لنا لهذا المعنى، معنى أن هناك أمة تحمل الرسالة، فقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة :5) وضرب الله مثلا لنا نحن أمة محمد بهذه الأمة حين تخلت عن رسالتها. فالأمة أنزل الله إليها الكتاب وحمّلها هذه الرسالة لكي تعمل لنصرة هذا الدين، فإن لم تعمل قُهرت وغُلِبت وهًزِمت حتى لو أنها أقرب إلى الله من اليهود والنصارى والوثنيين. المسلمون الآن في العالم قد صاروا فريسة لكل آكل. اليهود في فلسطين، والنصارى في عدد من الدول، والبوذيون والملاحدة، وحتى الهندوس، كل هؤلاء يأكلون من الأمة في أنحائها. فالقصد هنا أنه إذا لم يكن هذا الدرس يُطلب منه العلمُ للعمل فلا خير في قائله ولا خير في المقول له.
فعلى هذا بإذن الله تبارك وتعالى نستفتح حديث السيرة النبوية، وتعتبر هذه الحلقة الأولى منها بعد التمهيد الذي مهدنا في المرة الماضية. فنقول بسم الله، النبي صلى الله عليه وسلم، محمد صلى الله عليه وسلم، كثير من الناس بل أكثر الناس لا يحفظون نسب النبي صلى الله عليه وسلم وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه بن خزيمه بن مدركه بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. لا يهولنكم هذا النسب، إذا كررته على نفسك قليلا تحفظه.
نسب النبي صلى الله عليه وسلم يفيدنا في فهم السيرة. أولًا، نسب النبي ثلاثة أقسام:
1. من محمد إلى عدنان: هذا نسب ثابت، صحيح، محفوظ ومتفق عليه.
2. من عدنان إلى إسماعيل: هذا القسم الثاني غير متفق عليه بالكامل ولا هو من المحفوظات المؤكدة. المؤكد لدينا أن عدنان من ولد إسماعيل، لكن عدد الأجداد بين عدنان وإسماعيل وأسمائهم على وجه الدقة والتفصيل ليس ثابتًا ومحفوظًا، وفيه خلاف بين النسابة.
3. من إسماعيل إلى آدم: هذا القسم من المؤكد أن فيه أخطاء. صحيح أنه إذا فتحت الكتب ستجد نسبًا من إسماعيل إلى آدم، لكن لا يمكن الوثوق بصحة هذا النسب ومن المؤكد أن فيه أخطاء.
ومن الطرائف في هذا الموضوع أن رجلًا زعم أنه يعلم الأنساب إلى آدم فجاء إلى علي رضي الله عنه وقال له: "أنا أنسب الناس"، يعني كل شخص أستطيع أن أوصل نسبه إلى آدم. طبعًا هذا كان في أيام العرب حيث كانوا يحفظون أنسابهم. الآن، حتى نحن لا نعرف أنسابنا في العادة أو أغلب الناس هكذا.
فقال له علي رضي الله عنه: "كيف هذا وقد قال تبارك وتعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا﴾" (الفرقان: 38). فقال الرجل: "أنا أنسب هذه القرون" واثق من نفسه. فتلا عليه علي رضي الله عنه قول الله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ (إبراهيم: 9). فبُهِت الرجل. طبعًا هذا من بديع استشهادات سيدنا علي رضي الله عنه.
وأريد أن أخبركم أن هناك فارقًا كبيرًا بين أن تحفظ القرآن وبين أن تُؤتى ملكة الاستشهاد من القرآن. هذه مهارة وهذه مهارة أخرى. القدرة على الاستشهاد من القرآن وأن تأتي بموضع الشاهد هذا أمر فوق الحفظ بكثير.
وتعرفون المُزَني صاحب الشافعي. كان يُقال عنه إنه ما رأينا أحد أنزع لرأيه من كتاب الله من المزني. يعني أوتي هذه الموهبة أنه يستطيع أن يستخرج من القرآن ما يوافق المذهب الفقهي الذي ذهب إليه. لا أقول إنه يُطوِّع آيات القرآن للمذهب، لا، لكن قدرته على الاستدلال معروفة.
وتعرفون الحادثة المشهور لأبي يوسف، قاضي القضاة في الدولة العباسية وتلميذ أبي حنيفة، عندما سأله أحد شيوخه: "ما تقول يا أبا يوسف في المسألة الفلانية؟" قال: "كذا". قال: "وما دليلك؟" قال: "قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا". فقال الشيخ: "والله، إني لأعلم هذا الحديث قبل أن تُخلَق في بطن أمك". فالحفظ شيء، والفهم والاستنباط شيء آخر.
وبالعودة لنسب النبي، يبقى أن نقول: الأقسام الثلاثة لنسب النبي هي: من محمد إلى عدنان ثابت ومحفوظ، من عدنان إلى إسماعيل فيه اختلاف واضطراب، ومن إسماعيل إلى آدم من المؤكد أن فيه أخطاء.
ماذا يفيدنا نسب النبي صلى الله عليه وسلم؟
أولا، يفيدك نسب النبي في معرفة أجيال العرب وأزمانهم. غالبًا ما يكون الأجداد الثلاثة يمثلون 100 سنة، أي أن كل 100 سنة تضم ثلاثة أفراد. حين نحسب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان، فإننا نستطيع تقدير الفترة التي عاشوا فيها. وهذا يساعدنا في معرفة ما كان يحدث في تلك الأوقات وما يحيط بهم. دراسة أحوال العرب في الجاهلية موضوع يتضمن الكثير من الأبحاث الطويلة، وقد تميز فيها دكتور عراقي مشهور اسمه الدكتور جواد علي، وله كتاب بعنوان "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، والذي طبع في عدة مجلدات ثم اختصر في ثلاثة ثم في واحد. لكنه يعد الأكثر شمولية في بحث شؤون العرب في الجاهلية.
ثانياً، إذا حفظت هذا النسب، ستفهم كثيرًا من أحداث السيرة النبوية التي لم تكن تعرفها. مثلا، نحن ذكرنا أن النبي ينتهي نسبه إلى عدنان. طيب، الأنصار أهل المدينة ليسوا عدنانيين، وإنما قحطانيين. العرب بشكل عام ينحدرون من جدين كبيرين هما عدنان وقحطان. فالنبي من عدنان فهو عدناني، لكن الأنصار الذين نصروه من قحطان. حين تفهم أن النبي من عدنان والذين نصروه من قحطان، تعرف أن الإسلام لم يكن ولا يمكن أن يكون دعوة قومية قبلية عشائرية، لأن النبي انتصر بمن؟ انتصر بالقحطانيين، الذين هم من الفرع البعيد في أنساب العرب. فهذا معنى لا يمكن أن يخطر ببالك لو لم تكن تعرف أن النبي عدناني والأنصار قحطانيون.
كذلك، لا يمكن أن تعرف عظمة الأنصار وإيثارهم للمهاجرين على أنفسهم حين تركوا لهم الخلافة في سقيفة بني ساعدة. فالنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه قال: "الأئمة من قريش"، وأبو بكر رضي الله عنه قال: "إن هذا الأمر، يعني الخلافة، لا تعرفه العرب إلا لهذا الحي من قريش". فالأنصار سلموا لقول أبي بكر وقالوا: "نحن أنصار خليفة رسول الله كما كنا أنصار رسول الله". وهذا عظمة أخرى تضاف إلى سجل الأنصار، أنهم ظلوا أنصار القرشيين العدنانيين وهم أصلا قحطانيون.
من الأمور الأخرى التي لا يمكن أن تكتشفها أو تفهمها على وجهها بدون حفظ النسب، قول الذي اتبع مسيلمة الكذاب لما ارتد بنو حنيفة عن الإسلام في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلهم أبو بكر فيما بعد. ترى في قول قائلهم: "والله إني لأعلم أن محمدًا صادق وأن مسيلمة كذاب، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر". مضر وربيعة هذه لا يمكن أن تفهم من هما إلا لو انتبهت إلى أن في جدود النبي، في جد النبي الأعلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان. مضر هذا يقابله في الفروع العربية في الأنساب قبيلة ربيعة، التي كان أهلها يسكنون شرق الجزيرة العربية. فلا يمكن أن تفهم هذه العبارة إلا حين تعرف هذا في النسب.
كذلك، من المواقف التي لا يمكن أن تفهمها أيضًا إلا بحفظ هذا النسب، حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". هذا الحديث في صحيح مسلم: "فأنا خيار من خيار من خيار". فهذا الحديث لا يمكن أن يثبت في ذهنك إلا لو كنت مستحضرا للنسب.
ثالثاً, لا يمكن فهم النزاع الذي كان حاصلًا في مكة بدون استحضار هذا النسب. على سبيل المثال، قول المشرك لأبي جهل: "لقد تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا كنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي". لا يمكن فهم موقف أبي جهل وما معنى هذه العبارة إلا عند معرفة أن أبا جهل لم يكن في سلسلة هذا النسب. أبو جهل من بني مخزوم، وبنو مخزوم يلتقون مع النبي في مرة. كما ذكرنا، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة. هنا يلتقي أبو جهل، لأن أبا جهل هو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن مرة.
سوف نوضح هذا أكثر لاحقًا، لكن عبارة أبي جهل لا تُفهم إلا عند معرفة موقع التقائه مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب. كذلك، أحداث السيرة نفسها، عندما يأتي مثلًا عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: "يا محمد، أنت خير أم عبد المطلب؟" فيسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "إن كنت تزعم أنهم خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم نسمعك". لماذا اختار عبد المطلب؟ سنأتي لاحقًا لشرح هذه الفكرة، لكن هنا السؤال: لماذا اختار من بين أجداده عبد المطلب؟ لأن عتبة بن ربيعة يلتقي مع النبي في عبد مناف. عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، والنبي كما قلنا هو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وهناك نزاع حصل بين هاشم وبين عبد شمس.
رابعاًً، استحضار النسب سيسهل عليك حفظ أنساب الصحابة أيضًا لأن أغلبهم قرشيون، فهم يلتقون مع جد من أجداد النبي. أنت تحفظ نسب الصحابي إلى هذا الجد الذي يلتقي مع النبي ثم تكمل النسب إلى عدنان. مثلًا، أبو بكر هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. عند مرة، تكمل النسب إلى عدنان. عمر رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرطب بن رزاح بن تيم بن عدي بن مرة بن كعب بن لؤي، فيلتقي مع النبي في كعب. عثمان رضي الله عنه هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فيلتقي مع النبي في عبد مناف. أما علي، فهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي مباشرة.
لا تتصور أن الأمر صعب. حفظ النسب ليس صعبًا، خصوصًا عندما يرتبط بأحداث. القصد من معرفة النسب هو فهم قرب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم والعلاقات والمصاهرات التي كانت بين هذه العائلات. عندما نتحدث إن شاء الله عن شخصية سيدنا أبي بكر كأول من أسلم، سنرى كيف كان أكثر من أفاد الدعوة الإسلامية لأنه كان أحفظ قريش لأنسابها وأيامها. كان مؤرخ قريش. كان يعرف كل بيت، وما نسبه، وما أصهاره. نستطيع أن نصفه بأنه بمصطلح اليوم انه كان كجهاز مخابرات أو جهاز إعلام في زمانه. عندما نقول: "نريد أن نقيم علاقة مع فلان"، يقول لك: "آه، فلان هو ابن فلان المتزوج من فلانة، التي هي بنت فلان، التي أنجبت فلان". هذه الشبكة كانت في رأس سيدنا أبي بكر رضي الله عنه. عندما لا تحفظ شيئًا من هذا، تكون كالتائه في السيرة، تشعر أن الأسماء كثيرة جدًا وغريبة ومعقدة، ولا تستطيع التفريق بين سعد بن معاذ ومعاذ بن جبل، بين حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب. وبالتالي، ستفوتك الكثير من أحداث السيرة.
الجزء الأكثر أهمية في نسب النبي صلى الله عليه وسلم
النسب الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم يعد أول المؤهلات الأساسية لدعوته. فكيف كان ذلك؟ لماذا كان نسب النبي من أولى مؤهلاته في الدعوة؟
عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل ملك الروم، قال فيها: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الروم". ماذا فعل هرقل؟ هرقل هذا كان من عظماء أباطرة الإمبراطورية البيزنطية (الروم). عندما تقرأ عن الروم في التاريخ الإسلامي، هم الإمبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية التي كانت عاصمتها القسطنطينية وكنيستها آيا صوفيا.
هرقل كان من كبار الأباطرة وكان من علماء النصرانية في نفس الوقت. لكي يتأكد من أن الرسالة جاءت من نبي، أرسل شرطته ليأتوا بمن يجدونه من العرب. فقبضوا على أبي سفيان، الذي كان في تجارة إلى غزة، وجاؤوا به إلى هرقل. سأل هرقل أبا سفيان أحد عشر سؤالاً ليعرف من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو نبي حقيقي أم مدعي. كان أول ما سأله: "ما نسبه فيكم؟" فقال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب". فقال هرقل: "وكذلك الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم". هذه رواية البخاري في مسلم "وكذلك الأنبياء تبعث في نسب قومهم". إذاً، سنة الله في الأنبياء أن يُبعثوا في أشراف أقوامهم.
هذا يستدعي منا أن نعرف تاريخ هذه الأسرة النبوية. كما قلنا, محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. نقف هنا عند قصي بن كلاب.
قصي بن كلاب هو مؤسس الحكم القرشي، مؤسس الدولة القرشية، مؤسس عصر قريش. لو أحببنا تقريب الصورة، فهو مثل أتاتورك في تركيا، مؤسس الحقبة الزمنية والدولة. المؤسس عادة ما يكون شخصية لا تمس في الأجيال التالية فنحن الآن بعد مئة سنة من أتاتورك لكن ما يزال محصناً قانونياً وعلى رغم كل المجهودات لكن ما يزال يحظى بتعظيم شديد. وايضاً مثل الخميني في إيران فلا يمكن الان في ايران ان تمس الخميني لأن الخميني هو مؤسس هذه الحقبة وكذلك الملك عبد العزيز في السعودية.
قصي بن كلاب هو الذي حول مكة من قرية إلى مدينة وصنع لها نظام الحكم. قبل ذلك, كانت هذه الأرض مقدسة وفيها البيت منذ أن بناه إبراهيم وإسماعيل. صحيح انه نزلت بها قبائل مثل جُرهُم وخزاعة، لكنهم لم يكونوا يسكنونها بيوتًا. كانوا يرون الشجر مقدسًا فلا يقطعونه. فأول من تجَرّأ على قطع الشجر في الحرم هو قصي، وأول من تجَرّأ على بناء البيوت بالحجارة هو قصي. وقصي هذا تزوج ابنة زعيم خزاعة، القبيلة التي كانت مسيطرة على البيت.
قصي بن كلاب استطاع أن يغير مكة من قرية إلى مدينة، من مكان تنموا فيه الأشجار ويعيش الناس في الخيام إلى بيوت مبنية بالحجارة. وبنى مقر الحكم أو قصر الرئاسة بمصطلح العصر المعاصر, الذي كان عند قريش اسمه "دار الندوة". بناها قصي وجعل بابها مواجهًا للكعبة. وهو الذي فرض على التجار القادمين إلى مكة من خارجها ضريبة العشر، وبالتالي بدأ يكون هناك مورد اقتصادي. نستطيع القول إنه مؤسس النظام الاقتصادي في قريش، ليس مؤسس الاقتصاد بشكل عام لأن الناس كانوا يتاجرون منذ الأزل، لكن كونه استطاع فرض ضرائب يدل على قدرته على الحكم.
إذاً، قصي بن كلاب هو مؤسس حكم قريش، مؤسس عصر قريش، مؤسس دار الندوة. ولذلك تفرقت المناصب في أولاده، مثل مهمة الرفادة والسقاية والحجابة واللواء. هذه كانت في أولاد قصي. من يعيش في السعودية أو ما شابه يعرف الفارق بين صاحب السمو وصاحب السمو الملكي. الفارق أن صاحب السمو الملكي منحدر من نسل عبد العزيز، لكن صاحب السمو منحدر من أخوة عبد العزيز. حكم قريش والمهمات الأساسية كانت في نسل قصي بن كلاب، وكان رأي قصي في قريش كالدين، مثل الدستور الذي وضعه الآباء المؤسسون في أمريكا أو وثيقة الماجنا كارتا في بريطانيا. قصي كان يحظى بهذه المكانة الشريفة الرفيعة.
الآن ننتقل إلى حفيده، هاشم بن عبد مناف، جد النبي صلى الله عليه وسلم.
هاشم بن عبد مناف هو أحد الأجداد البارزين في نسب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الحديث الشريف: "واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم". سمي هاشم بهذا الاسم لأنه كان أول من هشم الثريد، وهو ما يمكن تسميته في المصطلح المعاصر باختراع أكلة جديدة تسد حاجات الحجيج. الثريد هو الفتة، وهي أكلة سهلة التحضير وتكفي الكثير من الناس، وتظهر كرم هاشم.
هاشم أيضاً كان له دور كبير في نقل مكة من المحلية إلى العالمية. كيف؟ لأنه كان أول من بدأ برحلات التجارة في قريش، وهي رحلتي الشتاء والصيف. هذه الرحلات لم تكن سهلة في ذلك الزمن، إذ كانت تتطلب اتفاقيات مع القبائل الممتدة بين مكة واليمن في الجنوب وبين مكة والشام في الشمال. كان هاشم يتفق مع هذه القبائل لحماية القوافل التجارية مقابل المشاركة في التجارة أو نسبة منها. كما توصل إلى اتفاقيات مع ملوك فارس والروم والحبشة لحماية التجارة في أراضيهم.
هذا التحول الكبير جعل من مكة مركزاً تجارياً يتبادل من خلاله البضائع بين الشام واليمن، حيث كانت بضائع اليمن منفذاً للبضائع الأفريقية والهندية، وبضائع الشام منفذاً للبضائع القادمة من الروم ومصر.
زاد على ذلك، الصراع الكبير بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، حيث كانت فارس تسيطر على العراق والروم على الشام، جعل المنطقة بين الشام والعراق غير آمنة ومليئة بالصراعات. هذا الوضع ساهم في إنعاش التجارة عبر مكة، التي أصبحت خطاً تجارياً خلفياً آمناً.
إذاً، هاشم أحدث طفرة في الاقتصاد المكي من خلال رحلتي الشتاء والصيف، وأحدث طفرة في العلاقات السياسية بين مكة وبين الدول، مما جعل مكة مركزاً للتجارة العالمية في ذلك الوقت.
عبد المطلب هو شخصية لها مكانة كبيرة، إذ أنه يُقال في شأنه أن الرئاسة في مكة لم ينفرد بها أحد إلا هو وقصي. تلك الرئاسة التي كانت لقُصَيّ أعاد عبد المطلب تجسيدها. في باقي الأزمنة، كان الحكم أقرب ما يكون إلى حكم نخبة أو مجموعة حاكمة، ولكن أن ينفرد أحدهم بالسيادة، فهذا كان خاصًا بقصي وعبد المطلب فقط.
هناك مواقف عديدة في السيرة تُظهر هذه المكانة، منها المقولة التي ذكرتها سابقًا عن عتبة بن ربيعة حين قال: "أأنت خير أم عبد المطلب؟"، حيث إن عبد المطلب كانت له شخصية لا تُمس، وكان من الصعب للغاية أن يجرؤ أحد في مكة على الادعاء بأنه خير من عبد المطلب. هذا الأمر مشابه، على سبيل المثال، لما إذا خرج أحد في تركيا وادعى أنه أفضل من أتاتورك، أو في السعودية وقال إنه أفضل من عبد العزيز.
وكذلك، عندما رغبت قريش في منع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في عمرة الحديبية، وجاءت وساطات عديدة، منها وساطة بديل بن ورقاء الخزاعي. وعندما رفضت قريش دخول النبي، قال: "أيأتي البيت لخم وجذام (قبائل في الشمال العربي) ويمنع منه ابن عبد المطلب". هنا أُشير إلى أن النبي كان معروفًا بأنه ابن عبد المطلب.
وفي غزوة حنين، حين تزعزع الجيش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". بالإضافة إلى ذلك، كان عبد المطلب قد اكتشف بئر زمزم في صحراء مكة، وتلك كانت كشأن اكتشاف النفط في عالمنا الحديث. عندما رأى في رؤيا رجلاً يقول له: "احفر بَرَّة، احفر طيبة، احفر زمزم"، في قصة طويلة ربما تعرفونها جميعًا.
الخلاصة أن عبد المطلب رأى في منامه رؤية تحدد له مكان بئر زمزم. كانت زمزم قد طُمرت إثر نزاع بين خزاعة وقريش في نزاع حول السيطرة على الحرم قبل مئات السنين، ولم يُعرف مكانها، وكان الماء يأتي من آبار أخرى ولم يكن جيدًا بل كان مالحًا وسيئًا. ونعلم جميعًا أن إيجاد المياه في الصحراء أمر صعب والماء المستخرج غالبًا ما يكون غير صالح.
فلما ذهب عبد المطلب ليحفر زمزم، لم يكن معه سوى ولده الوحيد. رآه رجال من قريش وقالوا له: "إن لنا فيها شركة" فتنازعوا.
قرروا الاحتكام إلى الكاهنة، حيث كان العرب في ذلك الوقت يلجأون أحيانًا إلى الكهان أو بعض أهل الكتاب. ولكن في الطريق، ضلوا ونفد منهم الزاد والماء حتى يئسوا من النجاة. وقالوا: "ليحفر كل واحد منكم لنفسه حفرة حتى إذا مات، مات فيها لكي لا تنهشه السباع أو يعتدي على جثمانه العابرين".
حين قام عبد المطلب لينهض بعيره، انبثق الماء من تحت خف البعير، فقالوا: "قد حكم الله لك يا عبد المطلب". وهكذا سلموا له بملكية البئر، فصارة هذا البئر في ملك عبد المطلب.
عبد المطلب كان يُعرف بجوده وسُمِّي بالفياض. واسمه الأصلي شيبة، وقد وُلد في المدينة المنورة وأمه من بني النجار. فلما ذهب أخوه المطلب ليأتي به رآه الناس وظنوا أنه اشترى عبدًا، فسموه عبد المطلب.
ثم وُلد والد النبي صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله. اشتهر عبد الله بأمرين: الأمر الأول هو قصة الذبح. تعرفون طبعا حديث "أنا ابن الذبيحين" وهو حديثٌ ضعيف، لكن الواقعة نفسها تحتمل من القرائن ما يجعلها واقعة صحيحة. وهي أن عبد المطلب نذر لله أنه إذا رزقه عشرة من الولد ليذبحن واحدا منهم تقربا إليه. فلما رزقه الله العشرة وكان أصغرهم عبد الله، وكان أحب أولاده إليه، أراد أن يوفي بنذره. في ذلك الزمان، كانوا يستقسمون بالأزلام، وربما نأتي على قصة العرب وكيف كان دينهم. كلما استقسم خرج له عبد الله الولد العاشر، وكان من أحب قريش إلى قريش، ألقى الله له المحبة في قلوب الناس، وكان أحب أولاد أبيه إليه. فكان من الصعب على قريش أن تضحي به أو أن يذبحه عبد المطلب.
أنتم تعرفون أنه كانت قريش تعبد الأصنام، لكن إذا جاعوا أكلوها. فأتى أمر الآلهة بذبح عبد الله، لكن هذا الرأي لم يكن يعجبهم، فقرروا أن يقوموا بقرعة أخرى لعل الآلهة تغير رأيها. استقسموا مرة أخرى بالأزلام، وخرج عبد الله. وقالوا: الآله متنشن! ولكن هذا الموضوع لم يعجبهم. ماذا نفعل؟ هل نخضع للآلهة أم تجعل الآلهة تفكر ثانية؟ وهكذا كما نعيش الآن في عالم يأكل أصنامه وقيمه ومبادئه.
عندما وجدوا الآله متنشن قالوا: لا، الكلام هذا لا ينفع. فذهبوا إلى الكاهن ليأخذوا النصيحة. بالطبع، يجب أن يكون لكل مجتمع قيادة دينية، وفي المجتمعات الحديثة تسمى القيادة الدينية القيادة القانونية. لا بد أن تكون هناك محكمة دستورية عليا. الرئيس يريد شيئاً، وهذا الشيء مخالف للدستور، فما هي مهمة المحكمة الدستورية؟ أن تضبط رأي الرئيس. هل يعقل أن يريد الرئيس شيئاً ولا يتماشى مع القانون؟
فذهبوا إلى الكاهن ليضبط لهم هذه القصة ويعطيهم الفتوى. الآله متنشن ومصر على عبد الله ونحن لا يعجبنا هذا الرأي. فقالت الكاهنة: كم دية الرجل فيكم؟ قالوا: 10 من البعير، أياً ما كان. قالت: اضربوا بين عبد الله وبين البعير. فضربوا بين عبد الله وبين البعير، فخرج عبد الله. قالت: زيدوها عشرة. نزيد عشرة حتى نقدم رشوة للآلهة حتى تغير رأيها. حتى خرجت على الإبل بعد أن صارت الإبل 100، فذبح عبد المطلب مئة من الإبل ونجا عبد الله بذلك من الذبح. لكن هذه القصة اشتهرت في قريش.
إذا نظرت إلى نسب النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أن كل شخص في نسب النبي صلى الله عليه وسلم كان له مكانة في قريش وله قصة في قريش. وكما قلنا، هذه من أول المؤهلات. ذكرت لكم أن الله تبارك وتعالى كان يبعث الأنبياء في أشراف أقوامهم. طيب، لماذا يبعث الله النبي في أشراف أقوامهم؟ كنت ناوي أن أقولها، لكن لأن الوقت انتهى، نؤجلها إن شاء الله إلى المرة القادمة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما. وأسأل الله تبارك وتعالى لنا ولكم التيسير والتوفيق والإخلاص والسداد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.