27 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

لله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.

اللهم اجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، ولا تجعل لأحد سواك فيه شيئاً، يا رب العالمين. هذا المجلس السابع عشر من مجالس السيرة النبوية، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرنا وإياكم في ظل عرشه، وعلى حوض نبينا صاحب هذه السيرة، صلى الله عليه وسلم، وأن يسقينا بيده الشريفة تربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.

وهذا المجلس إن شاء الله سيكون هو المجلس الأخير، حتى نتوقف في شهر رمضان المبارك. إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، نستأنفه بعد ذلك. فنسأل الله تبارك وتعالى أن نلقاكم بعد ذلك وقد كنا من الفائزين في رمضان، ممن غفر الله له ما تقدم من ذنبه.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن نلتقي أيضاً وقد رفع الله الكرب الذي فيه إخواننا في غزة، وإخواننا في الشام، وإخواننا في السودان، وفي بقية بلاد المسلمين، وفي اليمن.

نعم، وفي بقية تكاثرت الظباء على فراش فما يدري خراش ما يصيد. نعم، تعرفون قول المتنبي: "رماني الدهر بالأرزاق حتى فؤادي في غشاء من نبالي، فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال".

اللهم تبارك وتعالى أن يفرج عنا وعن المسلمين أجمعين. وهذه وصية لنفسي ولإخواني الأحباب، أن شهر رمضان هو نفحة من نفحات الله تبارك وتعالى، وهو الشهر الذي كان يجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة. فما كان النبي يرى أشد اجتهاداً منه في العبادة كما هو في شهر رمضان، ولا كان يرى أكثر إنفاقاً منه المال إلا كما هو في شهر رمضان.

قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة، يعني في الإنفاق، وكان أكثر ما يكون في شهر رمضان، وأكثر ما يكون حين يقرؤه جبريل القرآن، صلى الله عليه وسلم. وشهر رمضان فيه ثلاث فرص للمغفرة.

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".

شهر رمضان فيه نفحات، لكن على الأقل فيه ثلاث فرص متاحة للمسلمين لكي يمحو الإنسان ما كان في صحيفته من الذنوب. وقفنا في المجلس الماضي عند محاولات قريش لمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم، ولمواجهة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكرنا أنه من طبيعة الأمور أنه إذا انبثقت فيه حركة جديدة، أو انبثقت فيه دعوة جديدة، أو انبثق فيه شيء جديد، كان هذا هو محل اختبار للقوانين الناظمة للمجتمع. القوانين الحاكمة؛ هل ستستطيع هذه القوانين احتواء وامتصاص والسيطرة على الصدمة، أم أن هذه القوانين سيظهر فيها ثغرات وفيها مشكلات، وبالتالي ستحاول المجتمعات، أو يعني يحاول أهل السلطة فيها أن يغيروا هذه القوانين ويعيدوا إنتاجها من جديد لكي يضمنوا أن يسيطروا على مثل هذه الحالات.

فلذلك كانت البداية، في يعني البدايات، في أن قريشاً حاولت أن تجرب ما نسميه الآن في مصطلحنا المعاصر الوسائل السلمية المشروعة أو الوسائل القانونية. يعني الوسائل التي لا تدخل نظام مكة في أزمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رجل من بني هاشم، وبني هاشم في صميم النسب القرشي، وبالتالي فمحاولة إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم هي محاولة قد تثير حرباً أهلية بالمصطلح المعاصر، تثير معركة بين القبائل.

فلذلك كانت البدايات أول ما بدأوا به هو التجاهل والإنكار. وهذه البداية الأولى لكل مجتمع، وكذلك لكل أهل باطل في مواجهة الحق. ولذلك تقرأون مثلاً في كتب السيرة أن كان قوم مكة حين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإسلام لم يبعدوا ولم يقربوا، وظنوه رجلاً من المتحنفين.

واحد عنده فكرة جديدة، فبالتالي يُتركوه. لكن بعد قليل من الوقت، اتضح أن هذه ليست فكرة كبقية الأفكار، وهذا ليس رجلاً كالمتحنثين من قبله، مثل ورقة بن نوفل أو زيد بن عمرو بن نفيل، أو يعني بقية هؤلاء الذين كانت لهم أفكار انعزلوا بها عن المجتمع.

بل حركة تغييرية وإصلاحية، فكان أول ما بدأوا المواجهات كما قلنا هو أنهم كانوا ينظرون إلى النبي شظراً وبغضب، وكان ذلك كما سجله القرآن الكريم في قوله: "إن الذين كفروا يكادون يزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر".

فأول شيء هو هذا النظر شظراً وغضباً. طبعاً يجب أن نتذكر دائماً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شريفاً مكرماً في قومه، يعني لم يكن بالرجل المهمل، ولا كان بالرجل المنبوذ، فبالتالي وقع هذا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليس كوقعه في نفس عموم الناس، لأن النبي كان شريفاً مكرماً، وكان قومه يحتكمون إليه.

طيب، ثم حاولوا أن يمنعوا القرآن من الوصول إلى الناس، أو أن يمنعوا الناس من الوصول إلى القرآن. وقال الذين كفروا: "لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه توثوا عليه لعلكم تغلبون".

وهذه الدعاية الكثيرة أثرت في كثير من الناس، لدرجة أن بعضهم كان يضع القطن في أذنيه لكي لا يتسرب إليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فإلى هذا الحد بلغ كلامهم، ثم تفاقموا بكل أنواع التشويه والتشويش والسخرية والاستهزاء لكل شيء، يعني مثلاً القرآن الكريم نفسه.

قالوا: "سحر مبين". وهذا مطرد في كلام الله تبارك وتعالى. وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا سحر مبين".

يبقى التشويه للوحي. طيب، اجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب. بمصطلحنا المعاصر، هذه أفكار غريبة، أفكار غير موافقة للشعب القرشي، أفكار غير معتاد عليها. من أين أتى بهذه وهو يريد أن يغير هوية قريش؟ اجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب.

ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، أشياء غريبة. بل قالوا: "إنّا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنّا على آثارهم مهتدون". وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: "إنّا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنّا على آثارهم مقتدون".

ولذلك ما سمعنا بهذا في الملة الأخرى، إن هذا إلا اختلاق. يبقى من أنواع التشويه للوحي أنه هذه الأفكار أفكار غريبة، أفكار غير معقولة، أفكار غير مقبولة، أفكار لا يمكن أن تكون فاتت أجدادنا وحكمائنا وسادتنا، الذين شهد لهم العالم وشهد لهم الجميع بالحكمة.

حتى نحن ذكرنا ونحن نتكلم عن جاهلية العرب، إن العرب كانوا أهل عقول، وأشعارهم الجاهلية فيها حكمة، وبالمليئة بالحكمة، وبالذات من قرأ مثلاً معلقة زهير بن أبي سلمى.

لذلك، كانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أكثروا من السخرية منه، حتى نزل قول الله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً". يعني لا تجهر بصلاتك بحيث يسمعها الكفار فيسخرون، ولا تخافت بها حتى تخفى عن أتباعك، وابتغ بين ذلك سبيلاً.

طيب، هذا هو التشويه للوحي، حتى وصلوا إلى أن يقولوا: "والله نعم هذا الوحي هو جيد ولكن مكلف". وقالوا: "إن اتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا".

تمام، فبالتالي لدينا الآن تشعر بأنها حملة غير منظمة. كل شيء يمكن أن يقال من أول أنه هذه أفكار غريبة إلى أنه هذه أفكار مقبولة وحكيمة. ودعوت يا أخ العرب إلى صلة الأرحام وإلى حسن الأخلاق، ولكن مكلفة، ولذلك لا نستطيع أن نتبعها.

طيب، وكذلك كافة أنواع التشويه للنبي صلى الله عليه وسلم، بداية من: لماذا لم يرسل الله ملكاً؟ اشمعنى أنت؟ تمام، وقال الذين كفروا: "لولا أنزل علينا ملكاً".

طيب، حتى والله تبارك وتعالى رد عليهم في هذا. فقال: "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون". قل: "لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً".

يبقى هنا انتبه معي إلى أنه هذا التشويه المتعلق بالنبي غير التشويه المتعلق بالوحي، لأننا نتحدث الآن في ردة فعل انفعالية عاطفية غير متأسسة على تفكر ونظر. هي متأسسة على رفض.

فالرفض أحياناً يكون رفضاً للفكرة، وأحياناً يكون رفضاً لحامل هذه الفكرة. تمام. طيب، طيب إذا ما كانش ملك، لماذا لم ينزل معه ملك؟ وقالوا: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".

لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً. طيب، ما فيش ملك؟ طب لماذا لا ينزل على رجل غني؟ لماذا نزل على محمد هذا وهو فقير؟ وما قالوا: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً".

أو تكون له جنة يأكل منها، أو يكون له بيت من زخرفة، أو تكون له جنة يأكل منها. يبقى أيضاً فقر النبي كان أحد عوامل التشويه والتشويش.

طيب، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. طيب، لماذا لا يكون الرسول هذا من أشرافنا؟ وقالوا: "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".

القريتين يعني مكة والطائف، العاصمة الأولى والعاصمة الثانية للعرب. لماذا ذهبت الرسالة إلى هذا؟ لماذا لم تكن مثلاً في عتبة بن ربيعة، أو في الوليد بن المغيرة من مكة، أو تكون مثلاً في أروى بن مسعود الثقفي من الطائف؟

فهذا هجوم على النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك كانوا يقولون: "ابن أبي كبشة يكلم من السماء". ابن أبي كبشة هذا هو رجل من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم.

ابن أبي كبشة هذا لقبه، وهذا فيما جاءنا من أخبار في كتب السيرة أنه كان رجلاً من المتحنفين، ممن لا يعبدون الأصنام، وممن قرأوا كتب أهل الكتاب.

فلذلك استدعوا من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجد لكي يقولوا: "ابن أبي كبشة يكلم من السماء". نوع من السخرية والاستهزاء. طيب، وهذا النبي كما قلنا في المرة الماضية متصل مع جهات خارجية.

ولقد نعلم أنهم يقولون: "إنما يعلمه بشر". لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا يعني هذا القرآن لسان عربي مبين. طيب، وقالوا: "أساطير الأولين اكتتبها".

فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً. يعني أيضاً هو متفق كذلك مع جهات خارجية ومتصل بجهات خارجية، وهناك مؤامرة كونية على مكة. فلذلك هناك أفكار جاءت من الخارج، وحملها هذا النبي.

وحقيقة يا جماعة الخير، وكذلك قالوا أيضاً إنه قد يكون أصابته الهلاوس والتهيؤات. يعني كانوا يقولون إن هذا الذي يأتيه يعني جبريل عليه السلام إنما هو رأي الرائي.

يعني قرينه من الجن مثلاً، أو أن يكون من الهلاوس والتهيؤات. ولذلك رد القرآن عليهم في موضعين في سورة النجم وفي سورة التكوير. عند قوله تعالى: "ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم".

فأين تذهبون؟ تمام. وقد أثر هذا في النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه النبي بشر. وتخيل رجل كان شريفاً مكرماً في قومه، تحول في يوم وليلة إلى شاعر كاهن ساحر مجنون. تخيل كيف يكون تأثير هذا على النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك قال الله تبارك وتعالى: "ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". وقال تبارك وتعالى: "إنّا كفيناك المستهزئين".

وقال تبارك وتعالى: "يذكر النبي بأنباء الرسل من قبله، ولقد استهزأ برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون". نرى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد حين يحزبه الأمر، كان يقول: "رحم الله أخي موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

فكان هذا التشويه أيضاً مما أثر في النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان الله تبارك وتعالى ينزل عليه القرآن ويتلو عليه قصص الأنبياء تثبيتا له، وكذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكراً.

وفي الآية الأخرى: "ما نثبت به فؤادك". طيب، كذلك محاولات التشويه والتشويش والاستهزاء والسخرية طالت الصحابة، تمام، لأن الصحابة هم أول المستجيبين للنبي صلى الله عليه وسلم.

فمثلاً كانوا يقولون: "وقال الذين كفروا للذين آمنوا: لو كان خيراً ما سبقونا إليه". كبر أنه كيف يكون هذا خيراً وهؤلاء هم الذين يسبقون إليه. طيب، إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكيهين.

وإذا رأوهم قالوا: "إن هؤلاء لضالون". إذاً أيضاً كان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا يعني إذا لقيهم الذين كفروا، كانوا يقولون: "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ معقول؟ هل يعقل أن هؤلاء هم الذين ينفردوا بهذا الخير؟".

على كل حال، يعني هذه كما ترون فيها قدر من الارتباك والاضطراب، الذي هو تارة يرفضون القول نفسه، وتارة يرفضون أنه يكون نزل على النبي، وتارة تبقى المشكلة في الرسول، وأحياناً تبقى المشكلة في الصحابة.

تمام. لذلك حين قدم عليهم موسم الحج، موسم الحج هذا الذي يكون في أواخر السنة، تقدم عليه القبائل العربية إلى مكة.

طيب، حين تقدم القبائل العربية إلى مكة، هناك خطر. الخطر أن هؤلاء العرب يسمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم. الأشدة خطراً من هذا أن هم يسمعوا هذه الحملة الإعلامية المرتبكة، المضطربة، المتحيرة، لأنك لو سمعت حق واحد، وكثير من أشكال الرفض له، هيبقى إيه؟ فلذلك عقدوا اجتماعاً طارئاً.

يعني بمصطلحنا المعاصر، كده اجتماع مجلس الأمن القومي مثلاً، اجتماع طارئ للحكومة المصغرة، أيًا ما كان. وكان رئيس هذا الاجتماع الرجل الكبير المشهور الوليد بن المغيرة.

الوليد بن المغيرة هذا كان رجلاً قد جاوز الثمانين من عمره، وكان أغنى رجل في مكة، حتى كانوا يسمونه العدل. لماذا كانوا يسمونه العدل؟ لأن قريشاً تكسو الكعبة في سنة، وهو وحده يكسوها في السنة التالية.

لذلك كان يقال: عدل قريش، يعني يستطيع هو أن يقوم بالعمل الذي تقوم به قريش. ومما يروى أنه حين بنيت الكعبة، حين أعادوا بناء الكعبة، بنى هو ركناً منها، وبنت كل قريش الأركان الثلاثة.

فإحنا نتكلم في شخصية واسعة الثراء، وكان فوق ذلك رجلاً حكيماً، عظيم القدر، ناضجاً. وكان شيخ بني مخزوم، من بنو مخزوم بن المغيرة.

هؤلاء هم الذين منهم أبو جهل، أبو جهل هو ابن أخي الوليد بن المغيرة. وهؤلاء إذا نظرنا إلى نسبهم، ذكرنا في المجلس الأول من هذه المجالس أنه فهم نسب النبي صلى الله عليه وسلم يكشف لنا بعض الأمور.

هؤلاء ليسوا من أبناء قصي بن كلاب، اللي هو مؤسس الحكم القرشي. تمام. فهؤلاء يتطلعون إلى هذه الزعامة، لا سيما وإنهم في ذلك الوقت، الذي نتكلم فيه، كانوا قد بلغوا من الثراء مبلغاً كبيراً.

نحن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

مرة هذا هو الجد الذي يلتقي فيه نسب بني قصي ونسب بني مخزوم، لأن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة. يبقى هو فين؟ أين التقوا عند مرة؟

ولذلك يفسر هذا قول أبو جهل المشهور: "تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فاطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا تحاذت منا الركب وكنا كفرسي رهان". حصل إيه؟ قالوا: "منا نبي"، ضربة خطيرة في سباق الزعامة.

فأني يكون لنا ذلك؟ وفي رواية عنه أنه قال أيضاً، سأله بنو زهرة أو بنو الحارث بن نوفل، قالوا: "يا أبا الحكم، أبو جهل كان كنيته أبو الحكم".

قالوا: "يا أبا الحكم، هل كنتم ترون محمداً كذاباً؟ قال: لا والله، ولقد كنا نعده الأمين، وما كذب محمد قط. ولكن إذا ذهبت بني عبد مناف بالسقاية والرفادة، فما يكون لبني مخزوم؟".

فالوليد بن المغيرة، شيخ بني مخزوم، هذا كان زعيم هذا الاجتماع. طيب، هذا الاجتماع سببه ببساطة، يا معشر قريش، أقيموا لنا رأياً نقوله في هذا الرجل، حتى لا نختلف إذا جاءت العرب.

فلذلك الحملة الإعلامية غير المنظمة، هذه الحملة الإعلامية المضطربة، بدأت تدخل في التنظيم. طيب، وهنا طبعاً، هذا اجتماع مشهود، وذكره القرآن الكريم.

قال الوليد: "قل يا أبا يا أبا الوليد" هو اسمه الوليد وكنيته أبو الوليد، لأن ابنه الكبير هو الوليد أيضاً، وابنه الكبير أسلم، هو الوليد بن الوليد بن المغيرة، صحابي.

وابنه أيضاً خالد بن الوليد، وهو صحابي. تمام، قال: "بل قولوا أنتم". فقالوا: "نقول كاهن". قال: "ما هو بكاهن، لقد سمعنا الكهان، فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم، محمد والكلام الذي جاء به لا يشبه كلام الكهان".

قالوا: "فنقول مجنون". قال: "ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخفقته ولا تخالجه ولا وسوسته".

برضو كلمة مجنون دي مش الرأي المزبوط، يعني لو سمعها العرب يعرفون أننا نكذب. ليس بالمجنون. قالوا: "فنقول شاعر، شاعر مفلق"، يعني يقول كلاماً طيباً بليغاً.

فقال: "ما هو بالسحر، لقد عرفنا الشعر كله، هذا وجهه ورجزه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، فما هو بالسحر". قالوا: "فنقول ساحر". قال: "ما هو بالسحر، لقد عرفنا السحار، فما هو بنفسهم ولا عقدهم".

حيرة. صح، طيب فما نقول؟ الآية تقول: "إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبصر". واخد بالك من تصوير الآية، الحيرة اللي هم فيها.

قال: "إن أقرب القول أن تقولوا ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق به بين الرجل وولده، والرجل وابيه، والرجل وزوجه قبلها". قال: هذه الجملة التي تعد وثيقة مهمة جداً، قال: "والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه".

وهذا يا جماعة الخير هو الخطر الشديد على كل إنسان. أن تعرف الحق، ثم تنتصر عليك، تنتصر عليك شهوتك، تنتصر عليك مصلحتك، تنتصر عليك زعامتك.

يعني كلمة الوليد بن المغيرة هذه، لو أنه قالها رجل مسلم، لنُسب إلى التعصب والمبالغة. يعني لو واحد مسلم وصف القرآن هذا الوصف، ماذا كان يقال؟ منحاز، منحاز متعصب لمذهبي، لكن قالها الوليد بن المغيرة.

طيب، هذا الرواية، لذلك ربنا تبارك وتعالى قال: "ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً، وبنينا شهوداً، ومهدت له تمهيداً، ثم يطمع أن أزيد، كلا، إنه كان لآياتنا عنيداً".

سأرهق صعوداً. إنه فكر وقدر. فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر. ثم نظر، ثم عبس وبصر، ثم أدبر واستكبر، فقال: "إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر".

يقول ربنا تبارك وتعالى: "سأصليه سقر، وهي دركة من دركات النار، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر". العذاب العاصف، العذاب الساحق، لا تبقي ولا تذر.

روي هذه الرواية من طريق أخرى بشكل آخر، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً إلى جوار الكعبة، وكان يتلو من سورة غافر، وذلك قوله تعالى: "حميم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير، ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا، فلا يغررك تقلبهم في البلاد".

طبعاً نحن الآيات هذه لكثرة سماعنا لها، وتعودنا عليها، ولعظمة لساننا وذواقنا، مش واخدين بالنا ما فيها من العظمة والرهبة، لكن تقول الرواية: سمع الوليد بن المغيرة هذا، فقام إلى مجلس قريش، فقال لهم: "لقد سمعت أنفاً من محمد قولاً، ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة"، إلى آخر كلامهم.

ثم تركهم وانصرف. فقالوا: "صبأ والله الوليد، وهو ريحانة قريش". فما هو إلا أن تصبأ قريش كلها. أنت قلقان أمام الوليد، شيخ بني مخزوم، أغنى رجل في قريش، ورجل عربي، يعني مش الشخصية الدنيئة في شخصيات دنيئة، التي هي مهما أكلت تظل محتاجة.

لكن هذا الرجل قال: "فقام مغضباً، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، أمال إيه اللي أنتم بتتكلموا فيه ده؟". ثم هب إلى قريش ليحاول دفع هذه المسبة والمضرة التي كانت به.

فهنا حصل هذا الاجتماع الذي نتحدث فيه، وهو لكي يثبت موقفه، وأنه ما زال على دين قريش، ماذا ينبغي أن يقول في محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون في هذا الموقف ذكر نفسه وبخل أن تكون الرسالة قد نزلت على محمد ولم تنزل عليه هو.

فالذي فعله أبو جهل هو أنه نفس في، يعني بالمصطلح المعاصر، بس أريد أن أجيب شيئاً مؤدباً شوية، يعني عارف أنت يقول لك: إيه؟ طعنة في شرفه، أربعة، المعنى ده. يقول لك: إهان كرامته.

ومات الوليد بن المغيرة كافراً، ودخل النار، ونزل في دركة سقر، كما ذكر القرآن الكريم. لكن يا جماعة الخير، هذه الحادثة تُعد مدخلاً مهماً لكي نفهم منها منهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس.

طبعاً حين جاء موسم الحج، قبل أن أدخل في هذا، حين جاء موسم الحج، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الناس، وكان يمشي وراءه عمه أبو لهب، فكان يقول: "هذا كاذب، لا تصدقوه، كاذب، لا تصدقوه". فيقولون: "من هذا؟".

يقولون: "عمه"، فيقول الناس: "عمه أعلم الناس به". تمام؟ فبرضه قريش حين كلفت أحداً بمهمة تتبع النبي في موسم الحج، كلفت مين؟ الشخصية الأنسب المؤثرة التي تصد الناس عنه.

لكن في موسم الحج هذا، نستطيع أن نقول إن الدعوة الإسلامية حققت انتشاراً في كافة قبائل العرب، لأن كل الذين قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدموا إلى الحج.

حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى معه، كذلك كان من وسائل قريش لمواجهة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ما يمكن أن نسميه الآن مهمات خاصة. فمن ذلك مثلاً رجل اسمه النضر ابن الحارث.

هذا الرجل سافر إلى أوروبا وأمريكا بتاعتهم زمان، كان اسمها فارس. لماذا سافر؟ لكي يتلقى دورة تدريبية مكثفة، بي صد الدعوات بالمصطلح المعاصر.

هو ذهب إلى فارس لكي يتعلم قصص الفرس وأخبارهم. وذهب فتعلم قصص رستم وأسفنديار، القصص الفارسية، ثم جاء إلى مكة، فصار يتقصد مجالس النبي صلى الله عليه وسلم.

كلما جلس النبي إلى قوم، فإذا انصرف النبي عنهم، جلس إليهم النضر ابن الحارث. فكان يحدثهم بأحاديث الفرس، يريد أن يصدهم عما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: "من يعني من خير منا حديثاً؟ أيّنا خير حديثاً، أنا أم محمد صلى الله عليه وسلم؟".

وما كان يسمع بالرجل يريد أن يسلم حتى يرسل إليه بجاريته، ويقول: "أطعميه، واسقيه، واغنيه"، ثم يحدثه بهذه الأحاديث. يعني النضر ابن الحارث نستطيع أن نقول أول قناة فضائية أو أول مسرح ودار أوبرا نُصبت لمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم.

تمام؟ كان عندنا قصص، ويعني أفلام ومسلسلات ومسرحيات فارسية، وكان لدينا أيضاً جارية تغني، وأكل وشرب، فكان عندنا حفلات لمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك كان بعضهم، يعني من المهمات الخاصة أيضاً، ما كنا أشرنا إليه في المجلس الماضي، هم ذهبوا إلى أهل الكتاب من اليهود يسألونهم عن حقيقة هذا النبي.

فكانوا يستخرجون من أهل الكتاب علوماً لا يعلمها إلا الأنبياء، ليسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أمدهم يهود فعلاً بهذا، فقالوا: "سلوه عن قوم ناموا وما قاموا، وهم أهل الكهف، وسلوه عن رجل جاب بين مشرقها ومغربها، وهو ذو القرنين، وسلوه عن الروح".

ولذلك نزلت سورة الكهف تشرح حال هؤلاء الفتية، وتشرح حال ذي القرنين. ونزل قول الله تعالى: "ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".

طيب، منهج النبي صلى الله عليه وسلم. الذي يعني قصة الوليد بن المغيرة هذه مدخلاً تكون مدخلاً مناسباً له. إذا نحن أمسكنا بالفترة المكية، بداية من الجهر بالدعوة، وحتى الهجرة إلى المدينة، فنستطيع أن نستخلص منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له جدول أعمال أو كانت أمامه خطوات.

الخطوة الأولى في جدول أعمال النبي صلى الله عليه وسلم هي التركيز على إسلام زعماء قريش. التركيز على إسلام مين؟ زعماء قريش.

لماذا زعماء قريش؟ لأن زعماء قريش إذا أسلموا، أسلمت قريش، وإذا أسلمت قريش في مكة، أسلم وراءها العرب. فالطريق الأسهل والأقصر والأنجع هو أن يسلم زعماء قريش.

ذكرنا في المجالس الماضية أنه هناك قاعدة نحتاج إلى فهمها في السيرة النبوية، وإلى فهمها في حياتنا المعاصرة. وهي قاعدة العواصم. وأن العاصمة، الفكرة التي تسود في العاصمة تتمدد منها إلى غيرها.

الإصلاح إذا أصاب العاصمة، أصاب الإصلاح بقية الأنحاء. الفساد إذا أصاب العاصمة، أصاب الفساد بقية الأنحاء. أصلاً لم تنتشر عبادة الأصنام في العرب إلا لما جاء بها زعيم مكة في ذلك الوقت، عمرو ابن لحي الخزاعي.

فالطريق المباشر، الأقصر، والأسهل، والأنجع، هو أن يسلم زعماء قريش، فتسلم قريش، فيسلم العرب. ولذلك هنا رأيتم كيف انزعج القرشيون لما تهيأوا أو لما خشوا أن الوليد ابن المغيرة قد يكون أسلم وانحاز إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

خطر شديد جداً. قالوا: هو ريحانة قريش، فإن أسلم لا يبقى فيها أحد إلا أسلم. وذكرت لكم في ذلك الوقت أنه كل السيرة النبوية هي في حقيقتها صراع حول مكة، لأنه مكة هي عاصمة العرب.

ولما فتحت مكة ودخلت في الإسلام، أقبلت وفود العرب وقبائل العرب مسلمة، تدين بالإسلام وتدخل في حيز الدولة المسلمة. يعني فتح مكة كان في سنة ثمانية للهجرة، والسنة التاسعة للهجرة سماها العلماء عام الوفود، لأنه صارت كل قبيلة توفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفداً عنها يبايعه على الإسلام وعلى السمع والطاعة.

وفكرة السيد المطاع، هذه فكرة من أصلب وأقوى وأسهل حقائق الاجتماع والتاريخ. الناس تبع لزعمائهم، وقالت العرب: "الناس على دين ملوكهم". يعني حقيقة شوفوا، لا يوجد تغيير حقيقي إلا التغيير الذي تتبناه السلطة، أو التغيير الذي يصيب السلطة.

فكرة أنه في تغيير اجتماعي، أو تغيير مجتمعي، وهذا المجتمع يفرز سلطة، هذه من الخرافات والأوهام المعاصرة. الناس على دين ملوكهم، وهذا مطرد في آيات القرآن الكريم، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال الصحابة، وفي أقوال العلماء.

والله تبارك وتعالى ذكرت لكم: "إذا جاء نصر الله والفتح، فتح مكة، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً". يعني حين يحدث الفتح، يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ليس يدخل الناس في دين الله أفواجاً فيحصل الفتح، لا، العكس.

الناس على دين ملوكهم، ولما سألت امرأة كما في الحديث الصحيح أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قالت: "إلى متى يبقى هذا الخير الذي نحن فيه"، تقصد الإسلام؟ قال لها: "ما استقامت لكم أئمتكم".

يعني ما استقام لكم حكامكم وخلفاؤكم. ما استقامت لكم أئمتكم. سيدنا عمر ابن الخطاب يقول لزياد بن حدير: "أتدري ما يهدم الدين؟" فذكر ثلاثة: "زلّة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين".

حكم الأئمة المضلين. وسيدنا عثمان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وهذا كلام كثير كثير، حتى وقد امتلأت به، حتى أشعار العرب.

يقول أبو العتاهية: "ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها، فكيفما انقلبت يوماً به انقلبوا". يعظمون أخا الدنيا، فإن وثبت يوماً عليه بما لا تشتهي وثبوا.

حتى في أهل المال، وكلكم تحفظون قول الشاعر: "رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهبوا، رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده ما له، رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة".

فهذا من حقائق الاجتماع. هذه من طبائع البشر. ولذلك كل صاحب رسالة، كل صاحب إصلاح، كل صاحب فكرة تغيير مفسد أو مصلح قصد السلطة، لأن السلطة هي تحقيق الفكرة.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما ركز عليه في الدعوة زعماء قريش. زعماء قريش. حتى قال الله تبارك وتعالى له: "لعلك باخع نفسك. يعني لعلك قاتل نفسك إلا يكونوا مؤمنين".

وفي سورة الكهف: "لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا". يعني لعلك قاتل نفسك من الأسف على آثارهم إذا لم يؤمنوا.

طيب، يا جماعة الخير، حتى لو إحنا بنستعرض بقية الفترة المكية لما بعد السنة العاشرة للبعثة، لما ظهر واضحاً أن زعماء قريش لن يسلموا. الخطوة الثانية في جدول أعمال النبي صلى الله عليه وسلم هي الذهاب إلى الطائف، لأن الطائف هي العاصمة الثانية للعرب.

ولما ذهب إلى الطائف، قصد من في الطائف؟ هل ظل يدعو ضعاف الناس وصغار الناس، أم قصد الثلاثة الكبار، زعماء الطائف مباشرة؟ قصد الثلاثة الكبار، زعماء الطائف.

فردوا عليه أسوأ مما رد عليه أهل مكة. إن شاء الله سنأتي لها تفصيلاً، لكن الفكرة التي نحتاجها الآن من هذه الحادثة، أن النبي حين قصد الطائف، قصد من؟ زعماء الطائف.

طب، لما رده زعماء الطائف، بقي في الطائف يدعو صغار الناس، ولا خرجوا من الطائف؟ خرجوا من الطائف. الخطوة الثالثة، حين لم يؤمن زعماء مكة، ولا زعماء الطائف، صار النبي يعرض نفسه على القبائل.

يتحين النبي القبائل التي تأتي إلى مكة في موسم الحج، ويعرض دعوته عليهم. فإذا عرض النبي نفسه على قبيلة من القبائل، عرض نفسه على من؟ على زعماء هذه القبيلة.

لم يعرض نفسه على صغار الناس وضعفاء الناس، حتى لقي الأنصار. والأنصار متى بايعهم؟ حين أسلم بعض زعمائهم. ولم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلا حين أسلم زعماء الأنصار، لكي نفهم خطة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، يجب أن ننتبه إلى هذا.

الناس على دين ملوكهم، التغيير الحقيقي هو التغيير الذي تتبناه السلطة، أو يصيب السلطة، وكل ما قبل ذلك هو نوع من التمهيد، نوع من الإعداد، نوع من التهيئة، لكن من المستحيل أن يحدث تغيير والسلطة قاهرة ومتمكنة ومضادة لهذا التغيير.

طيب، وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، أين كانت معركته أيضاً؟ مع مكة باعتبارها عاصمة العرب. ولما اعترفت مكة بالدولة الإسلامية في صلح الحديبية، سمى القرآن الكريم هذه اللحظة الفتح المبين.

أنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. الفتح المبين هنا هو صلح الحديبية. يعني النبي في هذا الصلح لم يقاتل وينتصر، بل ولم يعتمر. تمام، الفتح المبين، يعني إذا أردنا أن نوجز المرحلة المكية، أو نوجز منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام، سنجد هذه الخطوات الثلاثة واضحة أمامنا.

دعوة زعماء مكة، ثم دعوة زعماء الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، بل على زعماء القبائل، حتى أسلم زعماء الأنصار، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصارت المدينة المنورة دار الإسلام، عاصمة الإسلام.

واضح يا جماعة الخير، تحفظون جميعكم قول الشافعي: "غاب عني وبطلعه، كان يقول: يذل غني النفس إن قل ما له، ويغنى غني المال وهو ذليل، ولا خير في ود امرئ متلون إذا الريح مالت ما لحيث تميل. غني إن استغنيت عن بذل ماله، وفي احتمال الفقر عنك بخيل. فما أكثر الإخوان حين تعدهم، ولكنهم في النائبات قليل".

يذل غني النفس إن قل ماله، ويغنى غني المال وهو في نفسه، يعني أو في طبعه ذليل. الناس، يعني أنا الآن، يعني أذكر لكم أنه من طبائع الحياة أن صاحب المال، صاحب النفوذ، صاحب القوة، محترم مقدر عند الناس.

بل ربنا تبارك وتعالى يقول: "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة، لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة، ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً".

يعني ربنا تبارك وتعالى يقول: "لولا أن الناس يفتتنون بمظاهر القوة والثراء والرخاء، لكان الله قد أنعم على كل الكفار بالثراء الهائل، لأن كل هذا سيزول وينتهي منهم في الآخرة. لكن لو أن الله فعل هذا وجعل الأغنياء وجعل الكفار في مقام الغنى، فإن هذا يفتن الناس، لأنه من طبيعة النفس الإقبال إلى مظاهر الدنيا".

هذه طبيعة نفسية، تمام؟ يقولون: "يمشي الفقير وكل شيء ضده، والناس تغلق دونه أبوابها، صح". وتراه مبغوضاً وليس بمذنب، ويرى العداوة لا يرى أسبابها.

حتى الكلاب إذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها، وإذا رأت يوماً رجل الغنى مالت إليه وحركت أذنابها.

انتهى؟ طيب، القصد هنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن غافلاً. وكيف يغفل صلى الله عليه وسلم، وهو لم يكن غافلاً عن أشياء هي من طبائع البشر، ومن طبائع السنن، ومن طبائع الاجتماع.

وعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هو إيه؟ هو أنصرافه عن زعماء قريش، عن الذي أقبل إليه من ضعفائهم. يعني عوتب في أنصرافه، مش عاتب في إقباله.

مهم يا جماعة الخير، قيل: "عبس وتولى أن جاءه الأعمي". تمام؟ وهذا يخبرك بمدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تسلم هذه الطبقة، فإنها إذا أسلمت تبعها الناس، لأن هذا من طبائع الناس.

تمام؟ طيب، إذا قدر الله لنا البقاء واللقاء، إن شاء الله نستأنف مجالس السيرة النبوية بعد شهر رمضان. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً. ولا تنسونا من دعائكم في هذا الشهر الكريم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.