26 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

السيرة النبوية | 2. لماذا ولد النبي في مكة؟ وفي عام الفيل؟

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً. اللهم اجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، ولا تجعل لأحد سواك فيه شيئاً يا رب العالمين. مرحباً بكم أيها الأحباب في هذا المجلس الثاني من مجالس السيرة النبوية، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذه الخطوات في ميزان حسناتكم.

هل يذكر أحدكم عمَّا تحدثنا في المرة الماضية؟ عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم. تمام، ذكرنا نسب النبي صلى الله عليه وسلم وذكرنا أن لحفظ نسب النبي فوائد. و السؤال المهم الذي لم نستكمله في المرة الماضية هو أن نسب النبي صلى الله عليه وسلم كان هو أول مؤهلات النبي للدعوة ولزعامته في العرب والمسلمين. كيف ذلك؟

ذكرنا أن النبي سليل أسرة عريقة من أسر العرب، انفرد أجداده بزعامه قريش، فهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. وقلنا إن قصي بن كلاب مؤسس الحكم القرشي ومؤسس الدولة القرشية بالمصطلح المعاصر. وذكرنا أن هاشماً، الذي هو جد النبي الأعلى، والذي هو حفيد قصي، كان صاحب طفرة سياسية واقتصادية في قريش. وذكرنا أن عبد المطلب جد النبي انفرد بالسيادة في مكة، وأن عبد الله أبا النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب قصة مشهورة في مكة وهي قصة الذبح.

هنا السؤال، لماذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأسرة؟ وكيف كان هذا النسب هو أول مؤهلات النبي صلى الله عليه وسلم للزعامة؟ هناك أمران أو حكمتان فيما يتبدى لنا: الحكمة الأولى هي الشرعية، والحكمة الثانية هي الحماية. يبقى رقم واحد الشرعية، ورقم اثنين الحماية. الشرعية، يعني إيه الشرعية؟

الشرعية ببساطة يا شباب هي السؤال الذي يعني الآن مثلاً لو حد جاء سألني: "أنت إيه اللي بقى عندك هنا في مكانك ده؟" تمام، فشرعية جلوسي هنا أن أقول مثلاً: أنا أعلمكم بالسيرة، فهذا الذي أهلني أن أجلس في هذا المكان. وزي ما أنا موجود دلوقتي هنا فأنا أحياناً موجود تحت أستمع لآخرين. فالشرعية هي السؤال الذي دائماً ما يتوجه للزعيم وللحاكم: "أنت مين علشان تتزعمنا؟ لماذا أنت من تحكمنا؟" هذه هي الشرعية.

فلذلك ذكرت في المرة الماضية قول هرقل: "وكذلك الأنبياء تبعث في أشراف أقوامها". وفي رواية مسلم: "وكذلك الأنبياء تبعث في نسب قومها". هذا النسب يوفر الشرعية بمعنى أنه يسهل على النبي أن يطيعه قومه ويخضعون له، لأنه سليل أسرة هي أصلاً في صميم النسب، فهذا يكون أسهل في خضوع الناس له.

ولذلك، يعني مثلاً نحن الآن إذا نظرنا إلى أي دولة أو إلى أي مجتمع، ستجد أن من يحكم الدولة عادة هو واحد من أهل العاصمة، حتى لو كانت أصوله في قرية نائية. لكن يصعب أن يأتي رجل من الريف أو من القرية أو من أطراف البلد ويصير زعيماً، فعادة ما تكون صفوة البلد، نخبة البلد، قوة البلد موجودة في العاصمة. أو أن يكون مثلاً سليل الأسرة الحاكمة. البلاد التي فيها ملكيات لا يُسلَّم فيها بالحكم ولا بالشرعية إلا لنسل هذه الأسرة الحاكمة.

طبعاً الشرعية يا أحبابنا موضوع خطير جداً، لأن كل حاكم عبر التاريخ كان مهتماً ببناء شرعيته مهما كانت قوته ومهما كان تمكُّنه، لأن الشرعية هي التي تجعل الناس يخضعون لهذا الحاكم طوعاً. يعني حتى فرعون، الذي هو المثال الأشهر في القوة والتمكن والاستبداد، قال: ونادى فرعون في قومه: "يا قومي، أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين"، الذي هو من؟ سيدنا موسى، "ولا يكاد يبين". فهو وصف استحقاقه للملك بأنه جعل مصر بلاداً خصبة ورخاء ورفاهية، وهذه هي شرعيته تماماً.

وكان الملوك قبل ذلك يستمدون هذه الشرعية من معبوداتهم وخرافاتهم وثنياتهم، فيقال مثلاً إن هذا الملك هو سليل الآلهة أو ربيب الآلهة أو ابن الشمس أو ابن ماء السماء، أو الإله هو الذي رضي أن يكون هذا في هذا المكان، فهو يستمد شرعيته. طيب حتى في عالمنا المعاصر، مهما كان الحاكم متمكن وطاغية، لابد أن يعمل انتخابات، لأن الانتخابات هي التي تُحوِّل حكمه من كونه غصباً وقهراً وقسراً وتغلباً إلى أن تكون ذات شكل شرعي، فهو يتولى برأي الجماهير، حتى لو هو يزوِّر الانتخابات، لكن الشكل لازم يبقى فيه شرعية.

فالشرعية، كما يعرفها الجماعة في العلوم السياسية، هي العنصر الذي يحتاجه نظام الحكم لكي يتخلى عن كونه قاهراً وقسرياً وجبرياً. فالناس يخضعون للقوم أو للأسرة أو للبلد التي تتمثل عندهم بنوع من الشرعية. فهذا أحد أسباب أن الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم. وذكرنا في المرة الماضية قول قوم شعيب لنبيهم:﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾. هذا هو العنصر الثاني الذي هو عنصر الحماية. العشيرة القوية هي التي توفر الحماية للداعية لكي يتمكن من تبليغ دعوته على الأقل في المراحل الأولى، إلى أن يكون له من القوة ما يستطيع أن يحمي به نفسه ودعوته. وذلك أيضاً في قوله تعالى في قصة نبي الله صالح: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ "نبيتنه" يعني نقتله ليلاً، التبييت هو الاغتيال ليلاً: ﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فإذا نسب النبي صلى الله عليه وسلم، كما هي سنة الله في الأنبياء، كان لهذين الغرضين: الغرض الأول هو الشرعية، إذ يسهل خضوع الناس لصاحب الدعوة وصاحب الرسالة. والأمر الثاني هو الحماية. طيب، تعالوا نبحث عن التطبيق. ظل النبي صلى الله عليه وسلم في حماية من حتى بلغ دعوته؟ في حماية بني هاشم، قبيلته وأسرته. طبعاً كان زعيمهم في ذلك عمه أبو طالب، تمام. وخشيت قريش أن تنال النبي بالأذى حتى مات عمه أبو طالب، إلى درجة اللحظة الأخيرة التي شعرت فيها قريش بالتهديد الوجودي حين كان النبي سيبني دولة. ماذا فعلوا؟ أيضاً تفتقت أذهانهم عن الوسيلة التي تجنبهم الحرب الأهلية، وهي: نأخذ من كل قبيلة فتىً جلداً، فيحيطون به، حتى إذا خرجوا ضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف أن يقاتلوا كل العرب فيرضوا منا بالدية "بالعقل" فنعطيها إياهم.

انظر إلى فلسفة هذا الحل وفكرة هذا الحل. إنهم يخشون من الحرب الأهلية، وظلوا 13 سنة يخشون من الحرب الأهلية، والحل الذي وصلوا إليه هو الحل الذي يجعل قبيلة بني هاشم أو بني عبد مناف غير قادرة على حرب جميع القبائل. فهذا يدلك على الحماية التي توفرت للنبي صلى الله عليه وسلم إلى لحظة إقامته الدولة في المدينة.

إذاً العنصر الأول من عناصر السيرة هو نسب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكرنا نسب النبي وفوائد حفظ نسب النبي، وذكرنا لماذا تبعث الأنبياء في أشراف أقوامهم. العنصر الثاني هو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم. متى ولد النبي؟ في عام الفيل. وأين ولد النبي؟ في مكة، تمام.

تعالوا نفكر في هذا الموضوع. ما الحكمة في أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل؟ أولاً الفترة التي ما بين مولد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي فترة مهمة. لماذا فترة مهمة؟ لأنها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل صادق. النبي استدل بهذه الفترة لقومه: "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبل"، يعني.

ولذلك، يا أحباب، ما فيش حد زعيم تظهر عليه ملامح الزعامة والسيادة بعد الأربعين. الزعيم هذا بيبقى طالع كده من شبابه ومن فتوته وهو زعيم الشلة اللي حواليه والعيال اللي معاه في الحارة، وزعيم القوم في شبابه قائدهم إلى المجون أو حتى قائدهم إلى العفة. المهم، ما فيش حد بيبقى هادي إلى الأربعين فيحدث له هذا الانقلاب. فالنبي استدل بالفترة التي قبل بعثته للدلالة على أنه صادق وأن هذا لم يكن أمراً يدعيه لنفسه.

الأمر الثاني هو أن كل فترة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، كل العناصر التي جرت للنبي كان فيها نوع من أنواع التهيئة لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولزعامته. فلذلك، نحن يجب أن نتوقف عند كل نقطة من هذه النقاط ونحاول أن نفتش فيها ماذا أراد الله تبارك وتعالى أو كيف هيأ الله تبارك وتعالى هذه الأحداث لكي تكون من مؤهلات النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته. فالآن نحن ذكرنا هذا النسب، الأمر الثاني أنه وُلِد في عام الفيل.

هذه القصة معروفة ومشهورة. منطقة اليمن في الجزيرة العربية كانت منطقة يتنازع السيادة عليها الفرس والروم. أحياناً يسيطر عليها الفرس وأحياناً يسيطر عليها الروم. طيب، الفرس أمرهم سهل، بين الفرس وبين اليمن الخليج العربي، تمام، أمرهم سهل. وكذلك المناطق الشرقية، هذه كانت مناطق قليلة. لكن اليمن ديار خصبة وفيها عدد كبير من الناس. فالسيطرة عليها سيطرة مهمة تجارياً ومهمة سياسياً.

طيب، الروم، الذين كانوا في القسطنطينية، كيف كانوا يسيطرون على اليمن؟ الحبشة، -التي هي إثيوبيا الآن- كانت كنيسة تابعة للكنيسة الرومانية. بين الحبشة وبين اليمن يوجد مضيق باب المندب فقط. فلذلك كانت اليمن هي إحدى المناطق التي تبادل الفرس والروم السيطرة عليها.

حين وُلِد النبي صلى الله عليه وسلم، كان الروم هم من يسيطرون على الحبشة، هم من يسيطرون على اليمن عن طريق الحبشة. ولذلك كان حاكم اليمن اسمه أبرهة الحبشي لأنه أصلاً كان جندياً والياً تابعاً لمملكة الحبشة، فهو رجل نصراني تمام.

طيب، هذا الرجل النصراني رأى أن العرب الموجودين في هذه الجزيرة يحجون إلى هذا البناء الذي هو الكعبة. وكأي ملك لديه قدر من القوة والسطوة ويريد أن ينشر دينه بين هؤلاء الوثنيين، أراد في البداية أن يجتذبهم فبنى كنيسته التي سماها "القُلَّيس" في اليمن. ثم تعرض هذا المشروع إلى فشل ذريع تمام. فالعرب لم يتركوا الكعبة، وهي إرثهم القديم، ولم يذهبوا إلى بيته الجديد. ويقال أن أحد العرب أراد أن يستفزه فذهب إلى هذا البيت وتغوط فيه.

فهنا طبعاً، كأن أبرهة سمع "الشعب يريد إسقاط النظام". طبعاً، هذه إهانة شنيعة جداً، فأراد أن يهدم الكعبة. هو شعر أن العرب سددوا له طعنة في شرفه، كما نقول نحن المصريين، فأراد أن يهدم الكعبة. خرج بجيشه العرمرم.

والعرب قديماً كانوا إذا استطاعوا أن يواجهوا أحداً قاتلوه. فكان لديهم قدر من البأس والشهامة، وذكرنا هذا في الحلقة التمهيدية "على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا"، و"أيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها إن ندينا".

طيب، لو كان الموضوع كبيراً لا طاقة لنا اليوم بأبرهة، يعملوا إيه؟ فكانت عادة العرب أن يتفرقوا، يخلوا مدنهم، وهي أصلاً مضارب القبيلة. يعني العرب كانت حضارتهم حضارة بسيطة، ليس لديهم مدن فاخرة أو قصور ضخمة يبكون عليها. فعلشان كده كانوا يتفرقون أمام الجيش في الجبال حتى إذا عاد الجيش نزلوا مرة أخرى إلى ديارهم، فما كان لهم من بيوت أصلحوا، وما كان لهم من شيات جمعوها، وهكذا.

فلما جاء أبرهة الحبشي، طبعاً أبرهة جاء بفيلة وجنود مجندة، دي حروب إمبراطوريات، فمن جرؤ أن يواجهه من العرب سُحق. وكذلك العرب كانوا أيضاً إذا انكسروا أمام أحد خضعوا له، حتى وصل إلى مكة وحدثت الحادثة المشهورة، وهي أنه خرج له عبد المطلب وذكر له أن جنوده قد أخذوا الإبل. فقال: "قد كنت هبتك"، نحن قلنا عبد المطلب كان زعيماً وسيداً، والله يعني أنا كنت أشعر بالهيبة نحوك، لكن جاي تكلمني في الإبل وأنا أريد أن أهدم بيتكم. فقال عبد المطلب مقولته المشهورة: "أما الإبل فلي، وأما البيت فله رب يحميه". وحدثت الحادثة المشهورة وهي حادثة الفيل.

طبعاً حادثة الفيل هذه كانت حادثة مزلزلة لأهل الحجاز ولأهل مكة بشكل خاص وللعرب بشكل عام، لأن مآثرتهم الكبيرة، بيتهم المقدس، لم يستطيعوا أن يحفظوه ولا أن يحموه. كلهم شعروا بالعجز وهربوا وتركوه، ولولا المعجزة الربانية لما استطاعوا أن يحافظوا على هذا البيت. إذاً، فهذه كانت لحظة رأى فيها العرب أنهم أضعف وأعجز من أن يحفظوا إرثهم المقدس، ورأوا أنفسهم أضعف وأعجز من أن يواجهوا جيوش إمبراطورية. ثم لما نجاهم الله تبارك وتعالى بمعجزة، ازداد إيمانهم وثقتهم في أن هذا البيت بيت مقدس، وأن له رباً يحميه، وأنهم نجوا بمعجزة.

أولاً، هذا الحدث حدث كبير، حدث مزلزل. فبالتالي، أي حدث يحصل قبله بشهر أو بعده بشهر او حواليه سيكون حدثاً فارقاً. زي كده الأخ اللي يتجوز مثلاً يوم الانقلاب أو يوم الثورة، أو اللي يتولد يوم 25 يناير، يعني تمام. الناس كلها اللي حواليه بتبقى عارفة إن الأخ ده إيه؟ اتجوز يوم الثورة يعني، اتولد يوم رابعة، وهكذا. فحادث الفيل هذا كان طبيعياً أن يلقي الضوء على مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي وُلِد بعده بأيام، فكل مكة كانت تعرف أن محمداً بن عبد الله وُلِد في عام الفيل.

الأمر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم سيذكّر قريشاً بحادثة الفيل. حين يُبعث صلى الله عليه وسلم، سينزّل الله تبارك وتعالى عليه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5). طيب، نحن لو حاولنا أن نشعر بشعور رجل كان موجوداً في قريش في ذلك الوقت وسمع هذه السورة من النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو الشيء الموجود في هذه السورة الذي يمكن أن يتأثر به أو ما الذي فعلته السورة أكثر من أنها حكت الحكاية التي كل الناس يعرفونها؟ صح، لم يأتِ في السورة بشيء لا يعرفه الناس. إذاً لماذا تلاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا نزلت؟ أهم كلمة في هذه السورة، كلمة ماذا؟ "ربك", "ألم ترَ كيف فعل ربك". هذا هو الشيء الوحيد الذي عليه خلاف بين النبي وبين أهل مكة، وإلا فبقية السورة كلهم يعرفونها. فهنا يشهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أنهم عجزوا عن حفظ هذا البيت، وأنه لم يتدخل في هذا إلا الله تبارك وتعالى، الذي هم يكفرون به الآن.

الشيخ الشعراوي رحمه الله كان له منطق بديع أحياناً يفسر به بعض الأمور، يقول لك: الآن إذا وجدت محفظة في الشارع أو فلوس وجاء أحد يدعيها لنفسه، فستقول له: "صفها لي". فإذا أعطاك مواصفاتها، فهو صاحبها. فكذلك الله تبارك وتعالى هو الذي قال لك: "أنا الذي خلقت الأرض وخلقت السماء وخلقت البحار وخلقت الأنهار"، هل هناك آخر ادعى ذلك لنفسه؟ هل في حد تاني قال كده؟ مافيش. فهنا "ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" فيها نفس هذا المعنى، أنه لا يستطيع أحد أن يزعم أنه أنقذ البيت إلا رب محمد صلى الله عليه وسلم.

لكن هذه التهيئة إذاً تهيئة من حيث أنها ألقت الضوء على حدث مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تهيئة من حيث أن العرب وجدوا أنفسهم في هذه القصة محتاجين إلى الله تبارك وتعالى، مفتقرين إليه. وجدوا أنفسهم محتاجين ومفتقرين إلى الله تبارك وتعالى، وبالتالي فكان هذا أدعى لهم أن يؤمنوا وأن يخضعوا لهذا النبي الذي جاءهم بهذه السورة.

وُلِد النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل في مكة المكرمة. لماذا مكة المكرمة؟ هذا أيضًا يدخلنا إلى أمر آخر نرى به تهيئة الله تبارك وتعالى لنبيه لهذه الرسالة. ذكرنا قبل قليل أنه أي شخص يتزعم قومًا غالبًا ما يكون من أهل العاصمة، صح؟ متفقين، ما فيش حد بيحكم الناس وهو يعني أتى من البادية أو من القرية أو من الأرياف. وكانت مكة عاصمة العرب، مكة كانت عاصمة العرب، المدينة المقدسة عند العرب، مش بس المدينة المقدسة دينياً، لكن المدينة الرفيعة اقتصادياً.

نحن ذكرنا في المرة الماضية أن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يمد علاقات سياسية بين أهل مكة وبين القبائل المحيطة المنتشرة ما بين مكة واليمن وما بين مكة والشام. هذه العلاقات السياسية جعلت هذه القبائل تحرس القوافل في رحلتي الشتاء والصيف، وبالتالي فهو وفّر ازدهاراً كبيراً اقتصادياً لقريش. يبقى هنا حصلت علاقات سياسية أدت إلى ازدهار اقتصادي. وذكرنا أنه أقام اتفاقيات مع حكام فارس والروم لكي يتاجر في أرضهم، يعني حرية التجارة في أرضهم. جده الأكبر, قصي بن كلاب، قلنا أنه فرض العشر على التجار من غير أهل مكة إذا قدموا بتجارتهم إلى مكة.

إذاً مكة هنا جمعت أمرين، ركزوا معايا في هذا الأمر لأنه سيفتح لنا باباً في السيرة كلها. خدوا بالكم أن مكة الآن تتمتع برفعة دينية، فيها الكعبة، البيت الحرام، وهذا أمر ليس لقبيلة عربية أخرى. ثم مكة تمتعت بازدهار تجاري من خلال رحلة الشتاء والصيف. وذكرنا أن التضاد والتصادم الذي كان بين إمبراطوريتي فارس والروم جعل الطريق البري المباشر بين العراق والشام طريق غير مأمون لأنه في حروب، فبالتالي كل التجارة من الشرق والغرب، يعني من الهند والصين إلى أوروبا وأفريقيا، كانت تضطر أن تسلك طريق اليمن، الحجاز، الشام براً وبحراً، فهذا أعطى ازدهاراً اقتصادياً لمكة.

إذًا مكة متمتعة بسيادة دينية، متمتعة بازدهار اقتصادي. عادةً المجتمعات التي تزدهر فيها التجارة ويغلب على أهلها التجارة، عادةً يقل فيها التقاتل لأن مصالح الناس كلها مرتبطة مع بعض. الحالة التجارية، أنتم عارفين في مقولة مهمة جداً في الرأسمالية ولا يزالوا يفتخرون بها حتى الآن، أنك لا يمكن أن تجد دولة رأسمالية حاربت دولة رأسمالية. طبعاً هم بيقولوا كده علشان يقولوا إن الرأسمالية دي هي اللي بتجيب السلام والوئام والحب، وعلى خلاف مثلاً الدول الشيوعية أو غيرها.

هذا الكلام فيه جانب صحيح الذي نتحدث فيه الآن، وفيه جانب خطأ، ليس وقته. لكن الجانب الصحيح أن العلاقات التجارية تجعل جميع الناس حريصين على أن تستقر هذه الأمور التجارية. مثلاً، نحن في عالمنا المعاصر دلوقتي، لو أن هناك بلد بينها وبين بلد أخرى اتفاقيات ومصالح وشركات واستثمارات متبادلة، بطبيعة الحال لو هناك أي تهديد لهذا البلد ستنهار أو تنهمر إليها الدول المرتبطة معها بالمصالح لكي تدافع عنها، زي ما حصل مثلاً في قطر في الحصار، يعني وجدت الإيرانيين وجدت الأتراك لا يسمحون باجتياح قطر لأن هناك مصالح قائمة، ونحو هذا الوضع.

طيب، هذا الكلام يخلق عندنا ظاهرة في مكة تخالف الظاهرة التي سنجدها في المدينة. اهل المدينة كانوا قوم زرع، وكان بينهم أوس وخزرج، والأوس والخزرج كل كام سنة تحدث بينهم حرب، وهذه الحرب قد يتفانى فيها رؤوس القوم. فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كانت كل قيادات المدينة من الشباب: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأُسيد بن حضير. كل هؤلاء كانوا طبقة شباب، لأنه كانت هناك حرب قبلها، وهي حرب بعاث. وكما تقول السيدة عائشة في البخاري: "كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم". يعني يوم تمهيدي، لأن الكبار، كبار القوم في المدينة، فنوا، قُتلوا، لم يبقَ منهم إلا واحد صار رأس المنافقين.

بينما في مكة، حتى وإن حصلت انقسامات قبلية وعشائرية داخل مكة، لا تصل إلى القتال. يعني نحن سنجد مثلاً أن أبناء قصي، الذين هم الأسرة الكبيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، انقسموا فبقي لدينا بنو عبد مناف في جانب، وبنو عبد الدار في جانب، تمام. وأحياناً بنو عبد مناف أنفسهم انقسموا، فصار لدينا أمية بن عبد شمس وهاشم بن عبد مناف، وكانت بينهم نزاع وتخاصم وكتب فيه المقريزي كتابه المشهور "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبين بني هاشم". لكن هذا النزاع وهذا الانقسام لم يؤدِ إلى حروب، بل أدى إلى تكوين أحلاف.

فلذلك في مكة نقدر نقول كان هناك كتلتان كبيرتان: حلف اسمه "حلف المطيبين"، وهذا هو الحلف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أني دعيت إليه في الإسلام لأجبت". الحلف ده كان حلفاً تواطأوا فيه على أنه أي مظلوم بمكة أو أي مظلوم لجأ إليهم، ظلمه أحد بمكة، أن يتعاون هؤلاء القوم على رد الحق إليه. الكتلة الثانية سموا أنفسهم "الأحلاف"، وهي التي كان فيها الكبار الآخرين.

يعني حلف المطيبين هذا كان فيه بنو هاشم، وكان فيه بنو زهرة، وهم قوم والدة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه تيم، قبيلة أبي بكر، وهي نفسها اللي كان زعيمها عبد الله بن جدعان، الذي كان في بيته هذا الحلف. وكان منهم أيضاً بنو أسد بن عبد العزى، وهم قبيلة السيدة خديجة. هذا حلف المطيبين.

الحلف الآخر كان فيه الكبار الآخرين، كان فيه مخزوم، الذي كان من زعمائهم الوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام بن المغيرة، اللي هو أبو جهل. وكان فيه بنو جمح، دول أيضاً الناس الكبار اللي كان منهم أمية بن خلف وأبي بن خلف، ورثهم صفوان بن أمية. وكان فيهم بنو عدي، وهم قوم سيدنا عمر بن الخطاب، وكان فيهم بنو سهم، وهم قوم سيدنا عمرو بن العاص.

فهاتان الكتلتان كانتا تتنافسان السيادة في مكة. لكن الخلاصة التي تهمنا الآن هي أنه بينما كانت تندلع الحروب في المدينة وفي بقية قبائل العرب ويتفانى بعضهم ببعض، كما قال شاعرهم: "وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا"، كانت الحالة التجارية الموجودة والسائدة في مكة لا تؤدي بالقوم إلى هذا التقاتل، وإنما تؤدي إلى أحلاف وتكتلات سياسية. ولذلك لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وجد مقاومة شديدة للدعوة لأن الكبار كلهم موجودين. يعني تجد عندك كل كبار القوم: العاص بن وائل من بني سهم، اللي هو أبو سيدنا عمرو بن العاص، الوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام بن المغيرة من بني مخزوم، أمية بن خلف وأبي بن خلف وصفوان بن أمية من جمح.

هناك حالة من التكتل الكبير لأن التقاليد المرعية تجعل كل هؤلاء القوم يخافون أن يحدث أي نوع من الخلل في توازن النظام. فهنا نفهم منها كلمة أبو جهل: "تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا حتى إذا تحاذينا وتجاثت منا الركب"، يعني السباق كان خلاص، قالوا: "منا نبي، فكيف يكون لنا ذلك؟" طبعاً مشكلة أبو جهل هنا هو المنطق القبلي، فهو ينظر إلى العالم ليس من منظور الحق والباطل، ولكن من منظور أنصبة السيادة والنفوذ والجاه، ومن الذي يعلو على الآخر.

وبالتالي فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج في هذه المدينة التي ذكرنا أنها كانت عاصمة العرب، وأنها بوجودها التجاري حافظت على التوازن الداخلي والخارجي فيما بينها. يعني الآن، لم تعد قريش مجرد قبيلة تعطيها العرب السيادة الدينية والاقتصادية فقط. فربما لو خرج زعيم من قبيلة أخرى يحب أن ينافسهم هذا المكان، لا، ده هي بما أنشأته من علاقات وتحالفات تجارية وسياسية صارت قريش مصلحتها مصلحة سائر القبائل العربية المحيطة بها. يعني صارت تتمتع، كما يقولون في العلوم السياسية، بالعمق الاستراتيجي. العمق الاستراتيجي يعني أي حد رايح يهدد هذه البلد يجب عليه أن يتعدى حدود الأمن القومي. وكذلك هذا البلد يتمتع بعمق استراتيجي بمعنى أن له إمداد من خلفه. يعني حسبه السيطرة على هذا البلد أو الإضرار بهذا البلد لا تنحصر في البلد نفسه وإنما تتعدى إلى غيره.

وبالتالي، فهنا قريش كانت في القلب من العالم، في القلب من قبائل العرب دينياً واقتصادياً، وهذا انتج أيضاً سياسياً، صارت قريش هي زعيمة هذه المنطقة بكل المعاني. وبالتالي، هذا يدخلنا يا أيها الأخوة الأحباب إلى ما يسمى في التاريخ قاعدة العواصم. يعني إيه قاعدة العواصم؟ الآن أي بلد، أي دولة، أي مكان، لابد أن يكون فيه بلد يمثل نخبته وخلاصته وموطن أهل الحل والعقد وأهل الرأي فيه، يعني نقول عليها مثلاً أم القرى، تمام.

يعني الآن إذا حصلت أي حرب على بلد من البلاد، متى نقول إن البلد هُزمت ومتى نقول لم تُهزم بعد؟ نقول هُزمت متى؟ حين يسيطر العدو على العاصمة، سقطت العاصمة، دي لحظة سقوط البلد. على العكس، لو حصلت ثورة مثلاً في بلد، متى نقول الثورة نجحت؟ حين تسيطر على العاصمة. طيب، ما سيطرت على العاصمة وسيطرت على كل الأرض، لم تنجح بعد. المشهد السوري مشهد، يعني إيه، واضح في هذا الموضوع. 90% تقريباً من البلد كان خرج من تحت سيطرة النظام، لكن هذه الـ10% التي تمثلها العاصمة استطاعت أن تستعيد مرة أخرى. وهذا أمر مضطرد في تاريخنا، حتى تاريخنا الإسلامي. يعني ممكن تحصل ثورة ويكون الخليفة ضعيف والراجل السائر ده يستقل بالمكان الذي سار فيه، وقد تستمر سيادته في المكان 20 سنة و30 سنة و40 سنة و50 سنة، وبعدين برضه تستطيع السلطة الموجودة في العاصمة أن تقضي على ثورته بعد ما يبقى عمل دولة واستمرت لـ30 و40 و50 سنة.

فمنطق العاصمة هذا منطق جوهري جداً في فهم كل شيء. مكة كانت عاصمة العرب بمعنى أن الزعيم الذي سيظهر في مكة سيقبل العرب بالخضوع له. وذكرنا في المرة الماضية أو التي قبلها قول أبي بكر رضي الله عنه يوم السقيفة، سقيفة بني ساعدة، الأنصار فكروا في أنهم أهل البلد ويجب أن يتولوا هم الخلافة. ما هي بلدهم، وقال قائل لهم: "يا معشر المهاجرين، نحن أنصار الله وأنصار رسوله، وإنما أنتم رَهْد". يعني في الآخر المهاجرين مهما كثروا بالنسبة لأهل البلد إيه؟ رَهْد. لكن أبو بكر قال إن هذا الأمر، يعني الخلافة، الزعامة، السيادة، لا تعرفه العرب إلا لهذا الحي من قريش. وفهم الأنصار هذا المنطق وخضعوا له، وفي ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، وهو حديث متواتر.

ونحن إذا نظرنا إلى كل السيرة، يا أحباب، كل السيرة هي صراع حول مكة، من يسيطر على مكة. كل السيرة بصوا معايا كده: النبي بُعث في مكة وظل برنامج النبي صلى الله عليه وسلم طوال العشر سنين بعد الدعوة الخاصة، اللي هي الدعوة السرية، العشر سنين منصبًا على أن يسلم زعماء مكة؛ لأنه إذا أسلم زعماء مكة تبعهم الناس في مكة وتبعهم العرب. فالنبي كان حريصًا على إسلام زعماء مكة حتى أنزل الله تبارك وتعالى فيه: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، يعني قاتل نفسك من الأسف، وقاتل نفسك لأنهم لم يؤمنوا. فهذا من سنة ثلاثة للبعثة إلى سنة عشرة للبعثة على الأقل، وهذا هو النقطة الأولى والكبرى في جدول النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك في هذه الفترة لم يُعاتب النبي في شيء إلا حين عبس لما جاءه عبد الله بن أم مكتوم لأنه صرفه عن حواره مع زعماء مكة تمامًا.

النبي صلى الله عليه وسلم، ركز كل طاقته على أن يسلم زعماء مكة. طيب لما خلاص لم يسلموا ولم يقبلوا، ذهب إلى العاصمة الثانية اللي هي الطائف. العاصمة الطائف دي تعتبر العاصمة الاقتصادية والسياسية الثانية في جزيرة العرب، ممكن نحكي قصتها فيما بعد. طيب لما رفض زعماء الطائف صار النبي يبحث عن القبائل حتى جاءه الأنصار واحتضنوا هذه الفكرة وهذه الدعوة.

انظر هنا منذ لحظة ميلاد الدولة الإسلامية حتى لحظة غزوة الأحزاب، كل الصراع كان بين النبي وبين من؟ وبين مكة. لما اعترفت مكة بالدولة الإسلامية في صلح الحديبية، لما اعترفت مكة يعني الذي هو بمصطلح المعاصر الاعتراف الدولي، كأنه أخذ مقعدًا في الأمم المتحدة. لما اعترفت مكة بالدولة الإسلامية في صلح الحديبية ووقعت معها هذا الصلح انظر إلى الأثر الخطير، يقول الزهري: فأسلم ما بين صلح الحديبية إلى الفتح, صلح الحديبية كان سنة 6 هـ، الفتح كان سنة 8 هـ. مثل الذين أسلموا من أول الإسلام، يعني 20 سنة لكي نصل إلى الاعتراف. نتيجة الـ20 سنة دول، عملناهم في سنتين فقط. من الحديبية إلى الاعتراف مكة بالدولة الإسلامية كان قفزة سماها الله تبارك وتعالى الفتح المبين: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾، الفتح المبين المقصود هنا هو صلح الحديبية، رغم أن النبي لا حارب وانتصر ولا حتى دخل البيت الحرام يعتمر. حتى سيدنا عمر استغرب، قال: يا رسول الله أفتح؟ هو قال: أي، أي وربي إنه لفتح. وفيه نزل قول الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةًۭ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُوا۟ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُوا۟﴾.

فما قبل اعتراف مكة بهذه الدولة، ده اعتراف النظام الإقليمي أو النظام الدولي يعني بمصطلح هنا المعاصر، يخالف تمامًا ما بعد مكة. طيب، لما فُتحت مكة وغلب عليها الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجًا، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًۭا﴾؛ علشان كده مكة فتحت سنة 8 هـ، سنة 9 هـ يُسمى عند أهل السيرة عام الوفود. كل قبيلة كانت توفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفدًا منها يبايعه على الإسلام والطاعة.

لحظة فتح مكة هي لحظة السيطرة على عاصمة العرب، لحظة انتصار الإسلام. فلذلك، هذه حكمة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة.

وبالتالي لو احنا حابين نلخص ما سبق، فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أسرة عريقة في عام فاصل في عاصمة العرب. كيف نستفيد نحن من هذا؟ طبعًا السيرة دي مش معمولة عشان نحكيها كده ونتلذذ يعني، لكن هذا يوجه أنظارنا إلى كيف يمكن أن يكون الإصلاح. حين تبدأ في الإصلاح، فبالتأكيد البداية من العاصمة مهما كان صعبًا هو المثمر. لكن البداية من الأطراف والأنحاء والبوادي هو غير مثمر في حقيقة الأمر. ولذلك هو سهل، البداية مع الطبقة العليا ذات الحسب والنسب أو ذات الغنى والثراء أو ذات الأثر هو الإصلاح المؤثر. والبداية من المستضعفين والمقهورين والمطرودين والفقراء هو في حقيقته غير مؤثر. مش معنى كده أن احنا سنحرم الناس من الهدى أو يعني ما يهمناش، لكن انا بتكلم على كيف يفكر صاحب الدعوة والإصلاح، إلى أي الطرفين يمكن أن يختار أو إلى أي طرفين يمكن أن يميل؟

وكذلك طبعًا في مسألة النسب الشريف. طبعًا مسألة النسب الشريف دي يعني ربما كثير منّا لا يستوعبها في عصرنا الحالي إلا الدول التي فيها ما تزال القبائل موجودة. يعني العراق مثلاً، مسألة البيوت مسألة مهمة. لكن إلى وقت قريب كان يُقال عن الإنسان المنحدر من بيت كريم ده: "إيه ده ابن أصول" و"ده من ولاد الأصول". وكانت تشتهر كلمة سيدنا علي أو هي منسوبة إلى سيدنا علي، كان يقول: "لا تصاحب من كان فقيرًا واغتنى، فإن الشح باقٍ فيه، ولكن كن مع من كان غنيًا وافتقر، فإن الكرم باقٍ فيه". تمام، أولاد الأصول أولاد البيوت العريقة، حقيقة هذه كانت ظاهرة اجتماعية لكن مع هيمنة الرأسمالية المعاصرة ومع تضخم المدن ومع الفقر الذي حصل في الأنحاء، يعني حصل كده في الـ200 سنة الأخيرة تغيّرات عالمية. التغيرات العالمية دي خلت المدن تبقى متضخمة جدًا وجهاز الدولة يبقى متضخم جدًا ويعامل الناس باعتبارهم أفرادًا، فقيم البيوت الكبيرة خفتت، كثير من الناس لم يعد يستوعبها. لكن أغنياء الزمن الماضي، يا أحباب، كانوا لا يصيرون أغنياء إلا ويرون أن عليهم واجبًا هو إطعام الطعام وإكرام الضيف واستقبال الغرباء. وعلشان كده، لا تجد بيتًا كبيرًا إلا ومن عاداتهم أنه لا يمكن أن ينزل غريب إلا في بيتهم. شهر رمضان دائمًا ما يفطر الفقراء والمساكين عندهم. هم الذين يستقبلون المشايخ والمداحين ويحيون هذه الليالي.

طبعًا هذه الأمور كلها ضعفت مع إيه؟ مع وجود الإذاعة والتلفزيون والتطورات الحديثة. فلذلك كان حتى البيت الكبير العريق، حتى لو كان مر بظروف اقتصادية وصار أهله فقراء، يظل الناس يقدرون أبناء هذا البيت. وهذا ما حصل، يعني مثلاً أسرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن أغنى الناس في مكة، لكن كانت من النسب الشريف. ولذلك حتى الرواية التي تعرفونها لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة، فماذا قال أبو طالب؟ قال: "إن محمداً من تعرفون حسبًا ونسبًا، وإن كان في قلة من المال، فإن المال عَرضٌ زائل وعاريةٌ مسترجعة." فلم تكن قيمة المال في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب يعني إلى حوالي 100 سنة فاتت مثلاً في بلادنا ولا تزال في البلاد اللي فيها قبائل، هذه المعادلة موجودة. لم يكن المال هو المقياس الوحيد لتقييم أصالة الإنسان وشخصه، بل كان النسب وكونه منحدرًا من بيت عريق هو ما يعطيه هذه المكانة.

فصحيح لم تكن أسرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الغنى، ولكنها كانت في هذا الشرف. وبالتالي، فالذي يريد الإصلاح يجب أن يسدد أنظاره ويسدد سهامه نحو المكان الذي يمكن أن يأتي له منه النتيجة.

طيب, بقي أن نرى كيف كان شكل العالم حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ولماذا اصطفى الله تبارك وتعالى نبيه الخاتم من العرب على وجه التحديد. يعني لماذا لم يكن النبي من الفرس، من الروم، من الهند، من الصين، من الحبشة؟ لماذا كان من العرب على وجه التحديد؟

ونُمهد لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعًا، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب." تمام. طيب، حيث أن الله تبارك وتعالى مقت هؤلاء جميعًا، العرب والعجم، فلماذا كان اصطفاء الله تبارك وتعالى لنبيه من هؤلاء العرب؟ لا بد أن العرب فيهم شروط معينة، خصائص معينة، ظروف معينة. يعني هذا إن شاء الله ما سنتناوله في المرة القادمة، إن شاء الله. نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في سننه ونسأله تبارك وتعالى أن يُعلِّمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً. السلام عليكم ورحمة الله.