35 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

مجلس السيرة النبوية - المجلس السابع

ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الدنيا على طاعته ثم في جنته ومستقر رحمته ودار كرامته. هذا المجلس السابع من مجالس السيرة النبوية، توقفنا فيه المرة الماضية عند وفاة أم النبي صلى الله عليه وسلم وعند كفالة جده عبد المطلب له.

بداية المجلس

ونستأنف الآن فنقول: طبعاً بدايةً يجب أن أذكر، يعني طبعاً بما حدث في الانقطاع في المجلس السابق يجب أن أذكر أنه فهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء الذي كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم هو من الأمور المهمة.

أهمية معرفة سيرة النبي قبل البعثة

من الأمور المهمة لغايتين ولحكمتين ولهدفين غرضين أساسيين، وهما الأمر الأول أن هذه الفترة هي التي حصلت فيها التهيئة للنبي صلى الله عليه وسلم لكي يكون نبياً وزعيماً. فنحن يجب أن نبصر في الأحداث التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم كيف أن هذه الأحداث هيأته للنبوة وهيأته للزعامة.

الأمر الثاني هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بهذه الفترة بفترة ما قبل بعثته على صدقه، وذلك كما قال الله تبارك وتعالى: "قُل لَّو شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ." فحياة النبي قبل البعثة كانت أحد الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته.

ولادة النبي والنسب الشريف

طيب، نحن لو استعرضنا استعراضاً سريعاً الكلام الذي قلناه في مثل هذا الأمر قلنا إن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم من النسب الشريف كان لها حكمتان على الأقل.

الحكمة الأولى: أن هذه سنة الله في الأنبياء، فهذا تصديق لكون النبي نبياً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا في ثروة من قومه." وهرقل لما سمع بالإسلام قال: "وكذلك الأنبياء تبعث في أشراف أقوامها." وفي قول الله تعالى: "وَلَوْلَا رَهْفُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ." فهناك أمور، يعني بعثة النبي في النسب الشريف هي من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأنها سنة الأنبياء قبله.

تأثير النسب الشريف على الناس

والأمر الثاني أن النسب الشريف هذا مما يسهل خضوع الناس وإذعانهم له، يعني لأنه لو كان النبي ولد في غير قريش أو كان ولد في قبيلة ضعيفة أو كان ولد في ناحية مهملة من الأرض ما كانت العرب لتخضع له أو لتسمع له، وإنما هم خضعوا وسمعوا له لأنه كان من قريش، وفي صدر قريش من بني هاشم من بني عبد المطلب. فذلك كان أسهل أن يخضع له الناس.

ولادة النبي في عام الفيل

وذكرنا أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل كانت أيضاً من الأمور التي هيأته لأنها جذبت الأنظار. يعني حدث الفيل هذا حدث ضخم، فكل الذين ولدوا في خضم هذا الحدث إنما تتجه إليهم الأنظار وتكون صورتهم واضحة في أذهان قومهم.

أحد العلامات المميزة أن هذا قد ولد في عام الفيل، ثم إن حادثة الفيل كان دليلاً أقامه الله تبارك وتعالى على قريش وحجة عليهم لعجزهم عن الدفاع عن بيت الله الحرام لأنهم تفرقوا في الجبال وتركوا البيت، وقال قائلهم: "للبيت رب يحميه." فهذه كانت أحد اللحظات التي وجدوا فيها أن أوثانهم وأصنامهم لم تغن عنهم شيئاً، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي تكفل بحفظ بيته عبر معجزة أنزلها من السماء وهي الطير الأبابيل.

الأحداث المحيطة بمولد النبي

وذكرنا أن الأحداث التي أحاطت بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، أبوه مثلاً في قصة الذبح المشهورة وكذلك وفاته، وفاته مبكراً المفاجئة، ثم وفاة أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما يزال في السادسة من عمره.

رضاعة النبي

رضاع النبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد، وذكرنا أن الرضاعة في البادية والنشأة في البادية كانت لها ثلاثة حكم على الأقل فيما نبصره.

  1. الحكمة الأولى: أن ينشأ فصيحاً على اللغة.
  2. الحكمة الثانية: نشأته في البادية تعود على الخشونة والرجولة.
  3. الحكمة الثالثة: ينشأ صحيحاً بعيداً عن الأمراض وبعيداً عن الخلطة التي تكون في المدينة.

هذه أيضاً من حكم نشأة النبي صلى الله عليه وسلم في البادية.

نشأة النبي يتيماً

وعلى كل حال، وصلنا الآن ذكرنا أنه نشأ يتيماً، كان يتيماً الأب منذ أن ولد ثم ماتت أمه وهو في السادسة من عمره. فهذه من الأمور أيضاً التي، يعني كما يقول أهل التربية بأنها تزيد من شعور الإنسان بأن النعمة لا يشعر بها إلا من فقدها. وكما يقولون: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه غير المرضى."

فالنبي صلى الله عليه وسلم يعني لا يعرف نعمة الأب والأم إلا من فقدهما، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يعني نشأ نشأة تبتعد به عن التدليل والترف وما يخالط ما يكون فيه الصبي المحبوب من النعمة والليونة مما يخالف المهمة التي تنتظره صلى الله عليه وسلم.

كفالة عبد المطلب

طيب، تمام، على كل حال. الآن وصلنا إلى أن أمه ماتت فكفله جده عبد المطلب. وذكرنا أن عبد المطلب كان سيد قريش، ومما يروى في ذلك أن عبد المطلب كان له مجلس في الكعبة، فكان أبناؤه يهيئون له هذا المجلس وكان ذا هيبة وذا مكانة ووقار، فكان لا يجرؤ أحد على أن يطأ مجلسه في الكعبة أو في ظل الكعبة أو في جوار الكعبة إلا ما يكون من محمد صلى الله عليه وسلم وهو صغير.

يعني نحن نتكلم الآن بين السادسة والسابعة. فيقولون كان يدرج إلى مجلس جده عبد المطلب، وكان يحاول أعمامه أن يمنعونه، فكان يقول لهم: "اتركوه فإن ابني هذا سيكون له شأن عظيم." وكان يحبه ويرق له أكثر مما يرق لأبناءه، الذين هم أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.

حب عبد المطلب للنبي

ولنا أن نتصور أنه الفتى منذ أن نشأ ودرج وتعرف على الحياة، لنا أن نتصور أنه كان يجلس مجلس السادة، يعني كان يجلس بحجر سيد قريش، فهذا أيضاً من عوامل تهيئة النبي صلى الله عليه وسلم للزعامة التي سيكونها بعد ذلك.

وأنتم تعرفون، يعني الإنسان نادراً ما ينشأ نشأة ضعيفة ثم يستطيع أن يتزعم ويتسيد، فهذا نادر في الناس، الذي يتزاحم ويتسيد يكون غالباً قد تهيأت له أسباب الصدارة وأسباب الزعامة، فكان هذا من تهيئة الله تبارك وتعالى لنبيه.

حادثة كفالة أبي طالب

وروي من حب أبي طالب، من حب عبد المطلب له، أنه كان قد أرسله مرة يسعى على احتبس عليه غنم. طبعاً نحن نتكلم الآن في طفل أو غلام في السابعة أو الثامنة من عمره، فكان بعض أبله، أو يعني أرسله لكي يحضر له أبلاً أو ما شابه، فاحتبس عليه يعني تأخر عليه. فقال له: يعني فظل يسير في طرقات مكة وهو ينشد شعراً.

ثم لما أقبل عليه قال: "أي بني والله لقد حزنت عليك كما تحزن المرأة على وليدها، ولا أزال حزينا عليك أبداً." فهذا كان من قوة العاطفة التي كانت عند عبد المطلب لحفيده محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يموت عبد المطلب والنبي في عمر الثامنة وأشهر، يعني الثامنة وشهرين وعشرة أيام على ما حققه بعض العلماء، يعني أو يعني بشهور تزيد عن ذلك.

فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم لكفالة عمه أبي طالب. إذا، الذين كانوا في حياة النبي حتى الآن هم: أمه آمنة، ثم جده عبد المطلب، ثم الآن عمه أبو طالب.

علاقة النبي بعمه أبو طالب

لماذا عمه أبو طالب؟ لأنه عمه هذا كان شقيقاً لأبيه، يعني أبو طالب هذا كانت أمه فاطمة بنت عمرو بن عائز المخزومي من بني مخزوم، هي أم عبدالله. يعني عبد المطلب تزوج بنساء عديدات، لكن هذه فاطمة أنجبت له أبا طالب وعبدالله، فكان أقرب الناس إلى كفالة محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو طالب رجلاً فقيراً، وكان كثير العيال، كان فقيراً وكان كثير العيال، ولكن بركة النبي صلى الله عليه وسلم أصابته وأصابت بيته.

فضل النبي على بيت أبي طالب

فكان مما يروى في ذلك أنه كان أبناؤه إذا طعموا لم يكفهم الطعام إلا أن يكون معهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يشبعون ويتركون فضلاً من الطعام. فكان أبو طالب يقول لمحمد: "إنما أنت مبارك." وهذا مفهوم.

وهو نظير ما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد مع مرضعته. كان أبو طالب يحب محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب أبناءه، فيروى أنه ما كان يجلسه إلا بجواره، ولا كان ينيمه إلا بجواره، وكان يفضله على سائر ولده.

فاطمة بنت أسد

وهنا سيظهر معنا اسم جديد في الذين تولوا تربية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اسم فاطمة بنت أسد. فاطمة بنت أسد هذه هي زوجة أبي طالب، وهي ابنة عمه، هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهو أبو طالب ابن عبد المطلب ابن هاشم.

طيب، وقيل في ذلك إنها كانت أول هاشمية تتزوج هاشمياً، فكان يعني بنو هاشم يتزوجون من القبائل الأخرى، لكن هذه كانت أول هاشمية تتزوج من هاشمي.

الزوجات السابقات لخديجة

طيب، هذه فاطمة بنت أسد. طبعاً نحن الآن لو عددنا النساء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى كم حتى الآن قلنا منذ أن ولد. طبعاً أول سيدة في حياته هي آمنة بنت وهب.

تمام، قابلة النبي من من يتذكر من؟ مين هي قابلة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قابلة النبي هي الشفاء بنت عمرو. الشفاء بنت عمرو، ذكرنا أنها أم سيدنا مين؟ عبد الرحمن بن عوف. ذكرنا هذا في المجلس الماضي.

السيدة الثالثة في حياته: ثويبة مولاة أبي لهب، وذكرنا أنها أول من أرضعته وأرضعت معه من حمزة ابن عبد المطلب وأبا سلمة ابن عبد الأسد.

تمام، ما التي بعدها؟ حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمها أم أيمن بركة الحبشية، وحليمة السعدية، والآن معنى من؟ فاطمة بنت أسد.

طيب، فاطمة بنت أسد، ذكرنا أنها زوجة أبي طالب، إلا أنها أسلمت على خلاف أبي طالب، وقد مات كافراً كما هو مشهور، وبعض ما يروى في ذلك يقول إنها كانت من السابقين للإسلام، وفي هذا كلام.

يعني لا أستطيع أن أثبت هذا أو أن أنفيه الآن، يحتاج إلى تدقيق، ولكن يعني لم أره إلا في مصادر شيعية. أنتم تعرفون طبعاً الشيعة احتفوا احتفاء شديداً بكل ما هو متعلق بعلي رضي الله عنه، فهذه فاطمة أم علي رضي الله عنه، فلذلك نسبوا إليها من الأمور ما لا يثبت.

ربما هذا منه، أنا يعني لم أحقق هذا في واقع الأمر. فالقصد أنها، لكن الإسلامها ثابت، وهجرتها ثابتة، وهي ماتت في المدينة، ولما ماتت كفنها النبي صلى الله عليه وسلم بقميصه، ونزل قبلها إلى القبر، وكان إذا ذكرها يقول: "ما وجدنا أحداً أبر بنا بعد أبي طالب إلا فاطمة." فهي كانت بمثابة الأم للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه، التي هي آمنة بنت وهب.

العمل في رعاية الغنم

طيب، إذا نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيت وفي هذا الجو، يكلؤه أبو طالب وكذلك تكلؤه زوجته فاطمة بنت أسد. أهم ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الأولى هذه كان كالاتي:

الأمر الأول هو رعي الغنم، يعني الآن نحن نتكلم عن النبي وقد صار في التاسعة والعاشرة والحادية عشرة. فأول ما يظهر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم هنا، وقد بدأ يدخل في مرحلة أنه صبي وغلام، هو رعيه الغنم.

رعي الغنم أيضاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذا في حديث يقول فيه "ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم." فقالوا: "وأنت يا رسول الله؟" قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة." قراريط يعني بمصطلحنا المعاصر قروش.

فوائد رعي الغنم

فكما يعني الليرة مثلاً عدد من القروش، الجنيه المصري عدد من القروش، فكأنه كان يعني يرعاها على ثمن زهيد صلى الله عليه وسلم. لكن هنا مسألة رعي الغنم هذه تحتاج إلى وقفة.

أنت حين تتأمل أنها سنة من سنن الأنبياء، لابد أن توقف عندها. يعني ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، فلا بد أن في هذه المهنة على وجه التحديد سر من الأسرار، وإلا فنحن نعرف أن عدداً من الأنبياء مارسوا مهناً أخرى، لكن المهنة التي مارسوها جميعاً هي رعي الغنم.

فلا بد أن في هذا معنى. طبعاً العلماء اجتهدوا في محاولة فهم لماذا رعي الغنم على وجه التحديد؟ فمما قيل في ذلك أنه الغنم حيوان ضعيف. الغنم، الخراف، الشياه حيوانات ضعيفة، وهذه الحيوانات في رعيها حيوانات متعبة، يعني ليست الإبل.

ليست البقر، ليست الحيوانات التي يمكن أن تدفع عن نفسها وأن تدافع عن نفسها، فهو حيوان ضعيف، فلذلك رعي الغنم أصعب من رعي الإبل ورعي البقر، لأنه لضعفها فإنها قد تهاجم من قبل الضواري أو الذئاب أو الأمور المفترسة، فهذا يحتاج إلى راعي، إلى راعي غنم أشد يقظة لكي يحمي هذه الغنم.

طيب، وقيل كذلك لأنه أيضاً الغنم حيوان أشبه بالبشر، لأنه الغنم هذه يكون في الجمع من الغنم، يعني كما نقول في مصطلحنا المعاصر حيوان مزاجي، يكثر فيه الكسل ويكثر فيه الاختلاف ويكثر فيه التفلت والشرود، بخلاف البقر والإبل فإنها أضبط وأحكم.

يعني هو ليس فقط حيوان ضعيف، لا، ده هو حيوان ضعيف ومتعب أيضاً، تجد منهم من يتكاسل ويتباطأ، ومنهم من يسرع ويتقدم، ومنهم من يشرد ولا يلتزم بالبقاء في القطيع، فهذا مما يحتاج معه الراعي إلى متابعة ورقابة وحسن سياسة.

لأنه لابد له من أن يرعاها جملة، ولابد له أيضاً من أن يعتني بها أفراداً. تمام؟ وهي، وهو حيوان بطيء الأكل، ليس أيضاً كالغنم، وليس كالإبل، وليس كالبقر، لأ، هو حيوان يعني هزه النزعة المزاجية أيضاً تتبدى فيه.

فلذلك ينبغي على الراعي أن يطمئن إلى حسن ارتياده المرعى، وحسن أخذ هذه الأغنام نهمتها من مرتعها، وأن ليست الأغنام يعني بالحيوان الذي يعني يستطيع أن يعرف مصلحته، لا، لابد للراعي أن يرتاد له الأماكن، فيتقدم عليه، ولابد للراعي أن يجنبه المهالك.

يعني كثيراً ما ترى الغنم يمكن أن يسقط من علٍ، لكن لا ترى هذا كثيراً في البقر أو في الإبل، لكن الغنم لأ. فهناك نوع من الغفلة والشرود والتفلت وعدم إدراك المصلحة فيها. سبحان الله.

يقولون وكأنه يعني كأن الغنم كان لهذا أشبه شيء بالبشر. البشر أيضاً فيهم الاختلاف الشديد وفيهم الشرود وفيهم الغفلة وفيهم التفلت، على ما فيهم أيضاً من الضعف والحاجة إلى من يرعاهم.

يعني الناس لا يصلحون بلا راعي، وقد قال الشاعر:

"لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا."

ولابد من طبائع الاجتماع أن يقود الناس أحدهم، يعني لا يستطيعون أن يحيوا حياة البرية، اللي هي حياة الضواري والسباع والحيوانات المفترسة.

يعني الخلاصة هنا أن الغنم كان أشبه شيء بالبشر، وهذا سبحان الله يذكرنا أيضاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في البخاري ومسلم، شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مع الناس تشبيهاً بليغاً، فكان يقول: "ما مثلي ومثلكم، أو في رواية ما مثلي ومثل الناس إلا كرجل استوقد ناراً."

"رجل أشعل ناراً، فصارت الهوام والفراشات ينجذبون إلى النار، شيء منير، فكما تحدس، قال: وأنا أخذ بحجوزكم عنها، ولكن تتفلتون مني وتتقحمون في النار."

فهذا وصف النبي لنفسه مع الناس، وحرصه عليهم وتفلتهم منه فيه هذا المعنى الذي نحكيه في مسألة رعي الغنم، وأن الغنم كحيوان يعني، وطبعا ذكروا أنه من كان يرعى الإبل والبقر يكون أشد شكيمة وقوة، وأكثر خشونة، بينما الذي يرعى الغنم يكون أكثر رقة ورحمة ورأفة، لأنه حيوان ضعيف وحيوان محتاج.

ويعني حيوان يكثر منه التفلت. وذكروا بعض الأمور، طبعاً ذكر العلماء بعض الأمور التي تتوفر للراعي بشكل عام، وأنه يعني، يعني يضطر إلى أن يحيى في الصحراء ويحيى في المناطق المفتوحة، فيكون لديه من الوقت للتأمل والتفكر ومعاينة السماء الصافية والحياة الممتدة ما لا يكون مثل ذلك لمن يقيم في المدينة أو لمن يعالج شأن الناس.

فهذا كله مما استخرجه العلماء من مسألة ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم. لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر عاماً، وقعت له حادثة مشهورة جداً، وهي حادثة بحيرة الراهب.

حادثة بحيرة الراهب

هذه الحادثة خلاصتها أن أبا طالب خرج إلى الشام في تجارة، فاستعظم النبي فراق أبي طالب، لم يرد أن يفارقه، فأراد أن يصحبه، أبا أبو طالب، فما كان من محمد إلا أن بكى، فرق له أبو طالب، وأصطحبه معه في هذه التجارة.

حتى ومضوا القافلة، حتى إذا كانوا في مدينة بصرة على مشارف الشام. مدينة بصرة، مدينة معروفة في الأردن على مشارف الشام، إلا وجاءهم راهب من رهبان النصارى يعرفونه، فاقبل عليهم يتخللهم، يعني القافلة التي فيها الله أعلم، عشرات أو مئات من الناس، أقبل عليهم يتخللهم.

وكانت عادة هذا الرجل ألا ينتبه إليهم، وهو أصلاً راهب في صومعة يتعبد ويتفرغ لهذا، لم يكن من أهل الدنيا، وكم مروا عليه فلم يأبه له، فمضى يتخللهم حتى وقف على محمد صلى الله عليه وسلم، وصار يقول: "هذا سيد العالمين، هذا رحمة الله للعالمين، هذا يبعثه الله للعالمين."

طبعاً هذا يعني مشهد مفاجئ للغاية بالنسبة لعموم الناس. فقالوا له: "وكيف ذلك؟" طب هو ما علمك بذلك؟ أنت أيه اللي بتقوله ده؟ فقال لهم: "أنتم منذ أشرفتم من العقبة ما بقي من شجر ولا حجر إلا وسجد له."

طبعاً هذه أمور لا يمكن أن تدرك بمجرد النظر، فلا تدري هل هذا الرجل كان يعني على قدر من العبودية والروحانية، بحيث إنه يرى ما قد لا يتاح للبشر، أم أن هذا أمر قد تهيأ له هو لما يعرفه من علامة النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال: "إنكم لم تقدموا إلا وقد سجد له كل شجر وحجر، وأني لأعرفه من خاتم النبوة أسفل غضروفه كالتفاحة." فاذا هو أيضاً التقط علامة من علامات النبوة، وهو هذا خاتم النبوة الذي كان يعني بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكرناه في مجلس ماضٍ، ونحن حين سردنا قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه. ثم إنه أولم لهم، يعني صنع لهم وليمة ودعاهم إليها، يعني حاول أن يجاهد القوم على أن لا يقدموا به إلى الشام، لأنه طبعاً الشام الآن، الشام في ذلك الوقت هي موطن النصرانية، وفيها كبار كبار النصارى، كبار الرهبان.

وذكرنا في قصة سلمان الفارسي، أنه حين سأل عن أصل هذا الدين النصرانية، قالوا له بالشام، فذهب إلى الشام وبقي هناك في خدمة اثنين من القساوسة. لو تتذكرون. فهنا ظل بحيرة الراهب يساوم ويفاوض أن لا يقدم بمحمد إلى الشام.

يقول: "فإنك لو قدمت به، عرفته النصارى وعرفه الروم." الرومان طبعاً كانت في ظل السلطة البيزنطية، وأنهم يقتلونه. وما زال به حتى رجع بابن أخيه إلى مكة، ولم يستكمل رحلته إلى الشام.

تذكر الرواية بعد ذلك أنه ما انفصلت العير عنه، ورجع أبو طالب بمحمد إلى الشام، حتى جاءه بعض الجنود من الروم، يقولون: "أنا قد علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الوقت." وقد أرسلت شرطة في كل طريق، ونحن المكلفون بهذا الطريق، يعني هؤلاء هم شرطة هذا الطريق، هو طبعاً يستقصون ويفتشون ويسألون، فقال لهم يعني فيما معناه: "هل تعلمون إذا أراد الله أمراً أن ينفذه، هل أحد يقدر أن يمنعه؟"

فقالوا: "لا." فقال: "فذكر لهم أنه قد رأى هذا النبي أنه عاد وعاهدهم على أن يرجعوا ولا يعني على أن يرجعوا دون أن يتبعوه." فعاهدهم على ذلك.

مسألة بحيرة الراهب

فقصة بحيرة الراهب هذه كانت من أوائل العلامات المبكرة التي تشي بأن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الفتى، هذا الغلام، وهو في الثانية عشرة من عمره، هو النبي الموعود المرتقب المنتظر الذي تنتظره الفئات المؤمنة وذات العلم من النصارى.

هنا حصل يعني في موضوع بحيرة الراهب فيه وقفة، لأنه نحن لدينا أمران يجب أن يعني نقف عندهما. الأمر الأول: هذه القصة وردت من طرق كثيرة، لكن كل هذه الطرق فيها مقال، يعني فيها ضعف.

هذه القصة وردت يعني على النمط الحديث بمعايير علماء الحديث، الروايات التي وردت فيها روايات كثيرة، لكنها لا تخلو من مقال. وبالتالي، فإذا رأيت بعض الناس يضاعفها فله في ذلك وجه وقول، لكن كثرة الطرق تدل على أن الحكاية لها أصل.

تمام؟ وبعض الطرق صححها بعض العلماء. هذا جانب يجب أن يعرف في قصة بحيرة الراهب. الجانب الثاني هو ما حاولته بعض المستشرقين المعاصرين.

المستشرقون وقصة بحيرة الراهب

طبعاً يجب أن نعرف المستشرق، الذي هو غير مسلم وغير مؤمن. حين أحد المعضلات يا جماعة الخير، أحد المعضلات التي تواجه الباحثين الغربيين والنصارى واليهود حتى الآن، هو كيف لمحمد، وهو لم يقرأ ولم يكتب، ولم ينشأ في بيئة مسيحية أو يهودية، أن ينطق بالقرآن الحافل بالمعلومات والبيانات التي لا يمكن أن تعرف إلا في بيئة مسيحية أو يهودية؟

هذه أحد المعضلات إلى الآن. ولذلك، فبعض اجنحة وبعض توجهات المستشرقين، يحاولون أن يقولوا إن مكة المذكورة ليست هي مكة التي نعرفها الآن، وإنما هي مدينة في الشام.

لماذا لجأوا إلى هذا؟ ليحاولوا تفسير كيف جاء النبي بالقرآن والسنة بمعلومات غزيرة وكثيرة جداً عن المسيحية وعن اليهودية، وفيها قدر من الجدل والرد. وهو قد نشأ أصلاً في بيئة وثنية.

وطبعاً هذا مأزق يتعرضون له، لكن الذي أريد أن أقوله الآن، إنه قصة بحيرة الراهب، وجد فيها بعض المستشرقين وسيلة لكي يقولوا: "هذا هو المعلم الأول الذي أخذ منه محمد."

تمام؟ أنت لو مستشرق أو لو غربي، لا تؤمن بالنبي، ولا تؤمن أن ما نزل عليه من الوحي، كيف يمكنك أن تفسر ما ذكره النبي؟ لابد أن تلتمس له مصادر بشرية.

تمام؟ وطبعاً قد فعل ذلك المشركون حين قالوا: "ولقد نعلمه." قال ربنا تبارك وتعالى: "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر." بأنه واحد لا يستطيع أن يقول الشعر، ولم يكن له قدرة على القراءة، ولم يكن له معلمون مشهورون، كان أمياً، ثم نزلت عليه الحالة فجأة، فصار يقول يحدث عن أخبار الماضيين، ويحدث عن أخبار الأنبياء، ويحدث عن بني إسرائيل.

فهذه كلها صاروا يلتمسون لها مصادر بشرية. فهنا اتكأ كثير من المستشرقين على بحيرة الراهب، لكي يقولوا إنه أول من لقن محمداً صلى الله عليه وسلم علم النصارى.

وطبعاً هذا بعيد، ويعني لا يمكن تصديقه، لأنه بالنهاية الرواية تحكي عن فتى في عمر الثانية عشرة، وتحكي عن لقاء عابر لم يستمر كثيراً، وتحكي عن لقاء شهده عدد من الناس، ولم يكن سراً بينهم.

وبالتالي، فيستحيل في اللقاء العابر مع الفتى الصغير، مع المشهد الكبير، أن يلقي بحيرة الراهب شيئاً ثم يبقى هذا الشيء مكتوماً، لا يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى الأربعين من عمره.

تمام؟ فبالتالي، يعني ما يحيط بقصة بحيرة الراهب يجب أن ننتبه إليه كما ذكرت في مسألة ثبوت القصة أولاً، وفي مسألة ما اعتمد عليه بعض المستشرقين في أن يتخذوا منه مصدراً بشرياً لعلم النبي صلى الله عليه وسلم.

نشأة النبي العفيفة

طيب، إذا كانت هذه بداية، يعني كما قلنا، أحد أهم دلائل النبوات التي بزغت في حياة النبي نفسه، وإلا فما ذكرنا قبل ذلك من معرفة أهل الكتاب به هو سابق حتى على مولده.

نأتي هنا إلى نشأة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت نشأة عفيفة، وقد عصمه الله تبارك وتعالى من أن يتلوث بشيء من أدران الجاهلية، وشيء من، يعني، أديان الجاهلية.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمس صنماً قط، ولم يأكل مما ذبح على الأنصاب. يعني لم يتلبس النبي صلى الله عليه وسلم بفطرته النقية من شيء بشيء من الجاهلية التي كان قومه عليها.

حتى ما يكون من أمور الشباب، حتى ما يكون من أمور الشباب، هذه أيضاً قد عصمه الله تبارك وتعالى عنها. وقد روى عن نفسه قال: "ما صبوت إلى ما يصبو إليه الشباب إلا مرتين."

مرة قلت يعني لصاحب لي: "أرعى على غنمي، حتى أنزل إلى مكة الليلة، فأسمر فيها كما يسمر الشباب." قال: "فنزلت، فسمعت يعني ضرب الدف وهكذا." هل سألت ما هذا؟ قالوا: "فلان يتزوج فلانة."

قال: "فشغلت بذلك حتى غلبتني عيني." يعني هو بمجرد ما دخل في هذا الحال، ألقى الله تبارك وتعالى عليه النوم حتى لم يوقظه إلا حر الشمس.

حاول مثل ذلك مرة أخرى، فحدث مثلما حدث، وبالتالي فعرف النبي أنه قد صرف عن هذا. تمام؟ وهنا كذلك يجب أن نتذكر، اختلف العلماء في مسألة أيهما أرفع منزلة، الذي لم يعصِ أم الذي عصى وتاب؟

هذا نقاش بين علماء الرقائق والتصوف، وطبعاً لا ندخل فيه. تمام؟ لكل فريق منهم أدلته، لكن الآنصراف عن المعصية أصلاً يصعب اقتراف المعصية. يعني حتى ما نعرفه من أحوال الأصدقاء والشباب ومن يسألون، الإنسان الذي نشأ في بيئة طاعة، لم يعرف المعصية أصلاً، هذا مهما دعته نفسه إلى العصيان، ومهما هزمته، فإنه لا يعرف كيف يعصي.

ليست بينه وبين المعصية طريق. يعني من نشأ في بيئة صالحة أو من نشأ في صحبة صالحة، هذا إذا أراد أن يعصي، لم يعرف كيف يعصي، بخلاف الذي المعصية أمامه ممكنة ومتاحة، فهذا يجاهد نفسه ويجالد نفسه، وربما غلبته نفسه فوقع في المعصية، لأنه السبيل أصلاً متاح، يعني مبذول.

معصومية النبي

الأمر الثاني الذين يقولون إنه المصروف عن المعصية أعظم قدراً من التائب، أحد أدلتهم هذا الذي نحكيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرف أصلاً عن اقتراف المعاصي. تمام؟ وأن صفيه وخليله أبا بكر، طيبة كيف الحال، أكرمكم الله.

وأن الذي، وأن صفيه وخليله أبا بكر رضي الله عنه أيضاً لم يتلبس بما تلبس به أهل الجاهلية من عبادة الأوثان. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمس وثناً، ولم يسجد إلى صنم.

كذلك لم يقترف ما كان يقترفه الشباب في وقته من اللهو. وبعض العلماء حمل هذا الكلام حتى على اللهو، الذي ليست فيه معصية. يعني بعض العلماء قالوا بأن النبي صرف حتى عن هذا المباح الجائز، لأنه لا يجوز في حق صاحب الرسالة. تمام؟.

فصرف عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أظن في مسلم عن جبير ابن مطعم. جبير بن مطعم، كانت قريش في الجاهلية، يعني هذه أحد العلامات أيضاً على تجنب النبي ما وقع فيه أهل الجاهلية في زمنه.

قريش كانت ترى أنها أفضل العرب منزلة، لأنهم أهل الحرام. ومن يعني ومن توابع هذا أنهم لا يقفون بعرفة. يعني صحيح من مناسك الحج، ومن دين إبراهيم أن يقف الحجاج بعرفة، وأن يفيضوا من مزدلفة.

فهم لكي يرتفعوا ويرتقوا، ويوافقون ما صنعوه لأنفسهم من المرتبة العالية، قالوا: "نحن أهل الحرم، لا نعظم شيئاً من الحل." يعني عرفة دي والمزدلفة دي، يعني يقفها الناس غير أهل الحرام. أما هم، فلا يخرجون في وقت الحج من مكة.

طيب، فهنا جبير بن مطعم يحدثنا، يقول: "إنني أضَلَّلت بعيراً لي." يعني بعير له شرد وهرب، فالتمس، فالتمسه، يعني انطلق ليلتمسه. قال: "فرأيت محمداً على عرفة."

فقلت: "إن هذا من الحمص." الحمس يعني قريش، فما جاء به ها هنا. فكان النبي عرفنا من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يوافق أهل الجاهلية في عباداتهم.

يعني ما اخترعوه وما اختلقوه لأنفسهم. وإنما كان يلتمس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام، حتى لو خالف في ذلك قومه. ومن هنا نشأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه النشأة العفيفة.

فكان أبر الناس، وأتقى الناس، وأرحم الناس، وأطيب الناس، حتى عرف واشتهر في قومه بلقبه الصادق الأمين. والصدق والأمانة هما رأس مال الداعية. الصدق هو رأس مال الداعية.

الإنسان الكذاب أو الكذوب أو من يعرف منه الكذب، هذا لا يمكن أن يؤتمن على دعوة أو رسالة. ولذلك، يعني طبعاً هذا يعرفه الناس حتى في حياتهم.

الإنسان الذي تعرف أنه كذاب، لن تأتمنه على شيء، لكن الذي لم تجرب عليه كذبا، هو الذي تأتمنه. فما كان يمكن أن يكون النبي نبياً، ولا أن يكون الرسول رسولا، إلا لو أنه يعني أو أظهروا صفاته، الصدق.

وذكرنا في حديثه رقل، حديث أبي سفيان، ما أهرق، لما سأله: "هل يكذب؟" فقال أبو سفيان: "لا، ما جربنا عليه كذبا." فقال هرقل: "فلقد علمت أنه ما كان ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله."

مسألة أن تكون، يعني النبي هذا الذي يقول: "أنا نبي." له احتمال من اثنين ولا ثالث لهما. أما أن يكون أصدق الناس، وأما أن يكون أكذب الناس.

الرجل الذي يزعم لنفسه أنه نبي، أما أن يكون صادقاً، وأما أن يكون أكذب الناس. لأنه سيضطر في كل يوم، وفي كل موقف، أن يزعم شيئاً ويكذب شيئاً.

يعني هذه دعوة لابد أن تدخلك في ايه؟ في مسار، أما مسار من الصدق أو مسار من الكذب. لا يمكن للذي يكذب مرة أو مرتين، أو الكذب في حياته قليل، أن يزعم أنه نبي. تمام؟

فكل نبي سيكون مكلفاً أن يتكلم بوصايا وتعاليم، وأن يتصرف في مواقف، وأن يقول إنما حصل كذا. وهنا سبحان الله، من الأمور التي لفتت نظري جداً، ما كنت قرأته لمستشرق فرنسي اسمه إيميل درامينجم، له كتاب اسمه حياة محمد.

هذا لو لم تخني الذاكرة الآن في المصدر. يعني إذا لم تخني الذاكرة في المصدر أيضاً، وأراجعه. لكنه كان يقول: لما حصل كسوف الشمس في اليوم الذي توفي فيه إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: "كسفت الشمس لموت إبراهيم."

دي فرصة ممتازة لأي داعية أن يقول: "نعم، أنت رجل يزعم أنه نبي، وتوفي ولده وكسفت الشمس." تمام؟ فرصة لا يمكن تفوت.

لو أنه إنسان يكذب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إنها لا تكسف لموت أحد، ولا لحياة أحد." فهذا الرجل المستشرق، من دون منجم، إذا لم تخني الذاكرة، كان يقول، وهذه أحد المواقف التي تشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لو لم يكن صادقاً، لكان بالضرورة قد زعم أنها كسفت لموت ولده إبراهيم.

وقد كان أحب الناس إليه. تمام؟ القصد يا جماعة الخير، إنه الصدق هو رأس مال الإنسان، رأس مال صاحب الفكرة، رأس مال الداعية. ومن هنا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل:

"أيكون المؤمن بخيلاً؟" قال: "نعم."

"أيكون المؤمن جباناً؟" قال: "نعم."

قالوا: "أيكون المؤمن كذاباً؟" قال: "لا."

الكذب صفة خارقة، صفة مسقطة للعدالة، لا يستقيم معها إيمان المؤمن. ولذلك يعني مسألة الكذب هذه مسألة خطيرة للغاية، وخطيرة جداً جداً جداً.

والإنسان حين يعود نفسه الصدق ويجنب نفسه الكذب، يتعود على قوة الشخصية، وعلى مواجهة النتائج، وتحمل المسئوليات. لكن الذي يعود نفسه الكذب، يعود نفسه النفاق، ويعود نفسه الضعف، ويعود نفسه التخلي عن المسئوليات وعدم تحمل النتائج.

الكذب يعني إيه؟ خطيرة جداً. ويعني تعرفون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً."

وإن الكذب يهدي إلى الفجور. الكذب يهدي إلى لا تجد رجلاً استمرأ الكذب إلا وقد تدحرج حاله إلى الفجور، لأنه يستطيع الكذب ويستسهل الكذب، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب.

وأنظر هنا إلى دقة اللفظ النبوي: "يتحرى الكذب." يعني يحاول يدقق ويفكر أي الكذبات أفضل، يتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً.

فصفة الصدق على وجه التحديد هي أرفع المراتب في مراتب الأخلاق. ومن ذلك قالوا إن الصديقية مرتبة الصديقية أرفع عند الله من مرتبة الشهداء، وهي التي تتلو مرتبة النبيين، وأفضل الأمة هو أبو بكر الصديق.

فالقصد هنا إن لابد أن تكون حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيما قبل رسالته، حياة رجل، حياة رجل صادق، لنؤي خدش في مسألة الصدق هو خدش في مسألة الرسالة.

وهذا مما ينبغي أن يكون واضحاً وظاهراً. وبعد ذلك ذكرنا أن النبي نشأ عفيفاً، ونشأ على خلق، ونشأ حتى عرف بالصادق الأمين.

عمل النبي بالتجارة

العمل الآخر الذي تولاه النبي، العمل الآخر الذي يذكر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم هو عمله بالتجارة. وهذه التجارة أيضاً أمر يحتاج إلى توقف. يعني لماذا اختار الله لنبيه رعي الغنم أولاً، ثم اختار له ثانياً التجارة؟

طبعاً مما هو معروف الآن ويتكلم عنه الخبراء في مسائل علم النفس والاجتماع وفي مسألة الشخصية وطباع الشخصية، أنه يعني المهنة جزء من تكوين صاحبها.

المهنة جزء من تكوين صاحبها. طيب، الآن تابعوا معي يا أحباب. نحن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع في بني سعد، ومن الحكم في هذا أن يكون فصيحاً بليغاً.

ولابد أن يكون فصيحاً بليغاً في أمة نصيحة بليغة، لأنه كما ذكرنا لا يمكن أن ينجح الداعية بين قوم هم مبرزون في مجال هو فاشل فيه. يعني لا يمكن أن يسود التجار رجل فاشل في التجارة.

لا يمكن أن يسود الفنانين والرسامين حتى رجل فاشل في الرسم. لا يمكن أن يسود الكتاب والباحثين رجل فاشل في الكتابة وفي البحث. وهكذا، فلذلك كان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منطقه فصيحاً، هم يتزعمهم، هم أهل الفصاحة والبيان.

وأما رعي الغنم فقد ذكرنا قبل قليل حكمته. الآن أهل مكة أهل تجارة، وذكرنا في المجالس الأولى أن مكة كانت مدينة تجارية، وكانت موئلاً لقبائل العرب، لأن فيها الحج.

ثم كانت على الطريق التجاري البديل الذي يصل الشرق بالغرب، خصوصاً حين تنقطع الطرق البرية التي تصل بين الشرق والغرب، لما يكون من المعارك التي كانت بين الروم والفرس، يعني حين يصطدم الفرس والروم في الشام والعراق.

فطريق التجارة البديلة التي تأتي ببضائع الهند والصين إلى الغرب، أين تسلك؟ تسلك الطريق الجنوبي الذي يمر بالجزيرة العربية ويعبر على مكة. ولذلك كانت مكة عاصمة تجارية، وكان فيها رحلات الشتاء والصيف.

فلا بد في قوم يمتهنون التجارة، بل صاروا تجاراً عالميين، أن يكون الذي يدعوهم ويتزعمهم رجلاً تاجراً، بل ورجلاً ناجحاً في هذه المهمة، في التجارة. ومن هنا نرى أن عمل النبي بالتجارة كان أحد أسباب أو أحد الأمور التي هيأته لكي يتزعم قومه ويستطيع أن يدعوهم.

التجارة كوسيلة للتعامل مع النفوس

الأمر الثاني أنه حقيقة التجارة هي حقيقة التعامل مع النفوس. يعني إذا كان، إذا كان مثلاً مرحلة رعي الغنم هذه تمهيد أو تدريب أولي على مسألة سياسة الجموع والافراد ومراعاة الضعفاء والمحتاجين، فمرحلة التجارة هي مرحلة التدريب المتخصص بالمصطلح المعاصر.

حقيقة التاجر أنه ليس فقط التاجر الذي يستطيع حسبة الأموال، حقيقة التاجر هو الذي يستطيع عقد الصفقات، ويستطيع أن يتفرس في أخلاق الناس، ويستطيع أن يراهن على هذا.

وأصلاً دخول التاجر في المساومات هو ما يجعله قادراً على المغامرة. يعني هو يعرف متى يعرض السعر الأعلى على هذا، ومتى ينزل مع هذا في السعر؟ يكون يتكون له بخبرته في التجارة قدر من الفراسة وقراءة الناس، كيف يساومهم؟ كيف يهادنهم؟ من الذي يؤجله بلا ضمانات، من الذي يشترط عليه الضمانات.

تمام؟ من الذي يدخل معه في صفقات؟ من الذي يتجنب الدخول معه في صفقات؟ حقيقة مسألة التجارة هذه من الأمور التي، يعني، يعني أخبر الناس بالناس هم التجار، بمصطلحنا المعاصر رجال الأعمال.

أخبر الناس، مش علماء النفس، ومش خريجي كلية التجارة، هذه كلها يعني مساقات دراسية وأمور أكاديمية يمكن أن تعرفها نظريًا، ثم تفشل في تطبيقها عمليًا.

حقيقة الأمر من الذي يستطيع أن يخاطب غرائز الناس وأفكار الناس ومغريات الناس هو التاجر، لأنه أكثر الناس احتكاكاً والتصاقاً بالناس.

فالنبي صلى الله عليه وسلم عمل بالتجارة، كان ذلك، كانت هذه هي المهنة المنتشرة في قومه، وكان له شريك اسمه السائب ابن أبي السائب.

آآ كان يقول إنه يعني ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن شريكه هذا ابن أبي السائب لم يكن هناك يعني لم يرى هو أصلح منه، ولا آآ أصدق منه، وكذلك كان آآ يعني معه في تجارته.

وسرعان ما بزغ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التجارة، فصار معروفاً أن محمداً يتاجر في الأموال، فيربح فيها ما لا يربح فيها ما لا يربح غيره. وكانت هذه بداية لأن تتعرف عليه من آيوة السيدة خديجة رضي الله عنها.

السيدة خديجة

طبعاً السيدة خديجة يجب أن يكون لها وقفة أخرى، إن شاء الله تكون في المرة القادمة. لكن الذي نريد الحديث عنه الآن، إنه السيدة خديجة كانت، آآ طبعاً السيدة خديجة نستطيع أن نقول كانت من سيدات الأعمال بالمصطلح المعاصر، كانت ذات مال، وكانت تزوجت قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برجلين، رجل من بني تميم ورجل من بني مخزوم.

آآ الأول اسمه هالة بن أبي هالة، طبعاً اسم هالة هذا كان العرب يطلقونه على الرجال والنساء. هالة كانوا يطلقونه على الرجال والنساء، وهو طبعاً يعني هذه الألفاظ المشتركة مشهورة.

والعرب عندهم آآ هذا يذكرني بأمر آخر، أحد المخرفين الضالين المضلين في مصر اسمه لويس عوض. هو طبعاً مات قديماً، ولكنه كان أحد فجار زمانه، وله كتاب اسمه مقدمة في فقه اللغة العربية. رد عليه دكتور إبراهيم عوض بكتاب مقدمة في فقه اللغة العربية أم في التهريج والبهلوانية.

لأنه قال من ضمن ما قال فيه، إنه اه يعني أن العرب اه يعني العرب لا تسمي الأسماء التي ظاهرها أنثوية. طبعاً هذا كلام لا يقوله إلا جاهل بأبسط المبادئ، لأنه أسماء العرب مليئة عتبة وشيبة وربيعة وأسامة وحنظلة.

يعني العرب كثير في أسماء رجالهم، هذا اللفظ الذي ينتهي بالتاء التي توحي يعني بأنها تأنيث، يعني القصد هنا إن السيدة خديجة كانت تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم برجلين.

آآ ثم بقيت بغير زوج، وكان آآ كانت طريقتها في التجارة هي طبعاً ذات مال كانت تعطي التجار أموالها ليتجروا فيها، مقابل الاتفاق على نسبة من الأرباح كما يحدث في كل آآ في كل المناطق، يعني.

فهنا آآ كانت، كانت تستعين في هذا بغلام لها اسمه ميسرة. وميسرة هذا لما سمع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم يتاجر ويربح في التجارة ما لا يربحه غيره، فقد اقترح على سيدته ومولاته أن ناتجر معه، فوافقت على هذا خديجة رضي الله عنها.

ومما يدل على ذلك، مما يدل على يعني قوة النبي صلى الله عليه وسلم ومهارته في التجارة أنه لم يصل أبداً إلى الشام. يعني رحلتي الشتاء والصيف، الرحلتين إلى الشام واليمن، هذه رحلات تجارية، القوافل تخرج من مكة حتى اليمن وحتى الشام، فتتجر وتعود.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الشام أصلاً، فكان هذا دليلاً على ماذا؟ على أنه ينتهي من تجارته قبل أن تنتهي القافلة من رحلتها في الطريق.

أن قبل أن يصل التجار إلى الشام، يكون النبي قد أنهى تجارته وعاد، وهذا من دلائل مهارته صلى الله عليه وسلم في التجارة. وهنا توفر الصدق والأمانة مع التجارة أمر من أصعب ما يكون ومن أندر ما يكون أيضاً.

أنتم تعرفون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين." والله تبارك وتعالى قال في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع."

آآ طبعاً أنا لي بعض أقاربي، أقاربي تجار، فأنا أشهد، أشهد بأنه آآ يعني غريزة البيع هذه مقاومتها عمل من أعمال الكبار. يعني حين يأتيك مشتري، تكون على وشك الدخول في صفقة، ثم يؤذن المؤذن، النظر يكاد ينعدم أن أرى من كان على وشك إتمام صفقة ثم أذن المؤذن، فترك الصفقة إلى المؤذن.

نظر، وندر جداً أن يكون التاجر قد دخل في صفقة خاسرة ثم لا يجتهد في يعني توزيعها أو بيعها بما استطاع من وسائل التسويق والترويج. يعني نوع من التورية.

طبعاً هؤلاء هم المؤمنون، أما الآخرون فبما أراد من وسائل الكذب، والحلف بالكذب. وآآ خلاص، قلنا الكذب يهدي إلى الفجور.

يعني، فيعني الكذابون هؤلاء أمرهم منتهن. لكن أنا أتكلم الآن عن الصالحين، الصالحين الذين يعني يعملون بالتجارة هم الحقيقة في مهمة عظيمة جداً، لأن في كل حركة بيع، في كل صفقة، يعني التزامه بالصدق والأمانة هو في الحقيقة آآ خسارة.

التزامه بالصدق والأمانة، يؤدي إلى الخسارة. ولولا ما يكون عند المؤمن من الثقة في الله، والثقة في أن الله هو الرازق، وأنه يعمل للآخرة، لا يعمل للدنيا، لما كنت تجد تاجراً صادقاً.

لأنه بالوسائل المادية، الصدق عكس التجارة، وعكس الربح، تمام؟ واستاذ خالد، هو ورجل أعمال واعد. ويتحدثكم عن الصفقات.

الخلاصة يعني، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمله بالتجارة كان يهيئه لعدد من الأمور التي يعني آآ من الضروري أن تكون عنده كنبي في قريش.

أولاً أن يعمل بالتجارة، وأن يبرز فيها لأنه بين قوم تجار بارزين في التجارة. والأمر الثاني أن تكون هذه التجارة محطة اختبار حقيقي لصدقه وأمانته وأخلاقه. تمام؟

نحن سنأتي بعد قليل لحادثة الكعبة، وسنرى أنه يعني أنظروا، هذا المجتمع التاجر الغني الذي يعني ينفق أهله الأموال الطائلة، سيعجزون عن بناء الكعبة بأموال حلال.

المجتمع التاجر، أي نشترطوا على أنفسهم، أن يبنوا الكعبة بأموال حلال، لم يستطيعوا أن يتموها. وهي مجرد بناء مربع، فبنوا بناءً مربعا، ثم وضعوا حجر إسماعيل.

موقف يشهد حتى الآن بأنه المجتمع كان غارقاً في الحرام، وأن هذه الأموال الطائلة الحلال فيها لا يستطيع أن يقوم بمبنى بسيط.

فكان لابد للنبي أن يبرز تاجراً بين قوم تجار، كانت هذه التجارة تثبت اختبار صدقه وأمانته وأخلاقه. وهذه التجارة هي الطريق الأول لمعرفته بالنفوس، وتعاملاته مع النفوس، لأنه سيدخل بعد ذلك في حديث النفوس، وفي محاولة إصلاح هذه النفوس، وفي هداية هذه النفوس.

فمعرفة النبي بالناس، واختبار معادنهم. وأن يكون له فراسة في الناس، هذه كانت من الأمور التي لا يحققها إلا تجارة.

وسنرى بعد ذلك أن التجارة كانت آآ هي مورد مالي تعيش عليه الدعوة الإسلامية سواء في زمن خديجة ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر.

طيب، إذاً نتوقف هنا، وآآ يعني نستكمل إن شاء الله في المرة الماضية، في المرة القادمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمله بالتجارة وما بعدها.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.