31 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

السيرة النبوية | 13. مفاجأة.. النظام المكي القرشي كان علمانيا يحتفي بالتعدد والحريات!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً. اللهم اجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، ولا تجعل لأحد سواك فيه شيئاً، يا رب العالمين.

مرحباً بكم أيها الأخوة الأحباب. قد تكلمنا في المرة الماضية عن السابقين الأولين. تمام، تكلمنا عن السابقين الأولين. آآ، أريد أن ألخص الآن ما كنا ذكرناه في المرة الماضية.

نقول إن السابقين الأولين لم يكونوا آآ يعني أي شيء، وإنما كانوا شخصيات في القمة من الفهم والعزم والجرأة والاستقلال والمبادرة، وأن هذا ما يظهر في صفاتهم التي نستشفها من مجمل أحوالهم.

فذكرنا أنه أول من أسلموا أربعة: أول من أسلموا خديجة، وأبو بكر، وزيد، وعلي بن أبي طالب. ثلاثة منهم اختاروا هم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم. خديجة هي التي اختارت الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك زيد ابن حارثة اختاره على أهله. وسيدنا أبو بكر اختار صحبته أيضاً.

لفت نظري أحد الأخوة لأنه لم يبين كيف أن سيدنا أبو بكر هو الذي اختار صحبة النبي صلى الله عليه وسلم. قد ذكرنا في المرة الماضية أن سيدنا أبا بكر كان ألفاً مألوفاً محبباً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلمها بأخبارها وأيامها. فهذا رجل تاجر، عالم، حسن الخلق، قريب، فالمقبلون عليه كثر، فإن يكون هو الصديق المصادق للنبي صلى الله عليه وسلم، دل ذلك على مبادرة من أبي بكر رضي الله عنه لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولارتباطه به.

وذكرنا بعد ذلك أنه سنجد في السابقين الأولين أنهم الشخصيات التي لم يهزمها شيء، ولم يربطها شيء. يعني مثلاً، كانوا موجودين من كل القبائل، فحتى القبائل الكبيرة التي كانت تنافس قبيلة بني هاشم، كانوا متحررين من هذه السطوة القبلية، ورضوا بأن ينضووا تحت النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكرنا عثمان بن عفان كان من بني أمية ابن عبد شمس، وكانت هناك منافسة بين بني هاشم وبني أمية، ولكن ذلك لم يمنع عثمان من أن ينضوي تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم. أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة من بني عبد شمس، أبوه سيد بني عبد شمس. كذلك أبو سلمة بن عبد الأسد كان من قبيلة بني مخزوم. الأرقم بن أبي الأرقم كانوا من بني مخزوم.

بني مخزوم، القبيلة المنافسة التي كان منها أبو جهل والوليد بن المغيرة، لم يصرفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً مسألة السن. يعني سنجد أن أغلبهم كانوا شباباً. نحن ذكرنا أنه كان أكبر واحد فيهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه كان ثمانية وثلاثين سنة. لكن سنجد أن سيدنا الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله والأرقم بن أبي الأرقم كانوا في الثانية عشرة والثالثة عشرة. سيدنا سعيد بن أبي وقاص كان سبعة عشر سنة. إذاً السابقون الأولون كانوا يتمتعون بالاستقلال والعزم والجرأة والمبادرة، ولم تكن تقيدهم ما كان يقيد من حولهم. لم يكونوا متقيدين بالبيئة الجاهلية التي كانوا يعيشون فيها.

وأدل دليل على ذلك هو حالة سيدنا بلال وحالة سيدنا عمار وحالة أبو عمار ياسر، وكذلك أم عمار سمية. فهؤلاء من العبيد الأرقاء الضعفاء، ومع ذلك لم يمنعهم هذا من أن يلتحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. رغم أنه فيما يبدو وكأنه هؤلاء العبيد والأرقاء والموالي خارج أصلاً هذا الصراع الذي يجري بين سادة قريش. يعني هو خروج النبي بدعوته يشبه في حالتنا المعاصرة أن يظهر حزب جديد مثلاً في الساحة السياسية. فمن في الخدم ومن في العبيد ومن في العمال الفقراء من يهتم بأن يلتحق بل أن يكون من السابقين الأولين. عدد قليل.

طيب، من الملامح التي نراها أيضاً في السابقين الأولين هو نشاطهم، نشاطهم في الدعوة إلى الإسلام. وهذا يدل على سرعة مبادرة وسرعة استجابة وسرعة عزيمة. وذكرنا أنه في خلال هذه الشهور الأولى أسلم عدد من الناس سردهم ابن هشام فبلغوا أربعين رجلاً وامرأة. لكن كان طبعاً آآ المبرز فيهم سيدنا أبو بكر لما أتى في اليوم التالي بخمسة من العشرة المبشرين بالجنة.

فهذا أيضاً وحين ترى أن السابقين الأولين كانوا من سائر القبائل القرشية، من تيم ومن عدي ومن جمح ومن سهم ومن بني أمية ومن بني مخزوم ومن بني عبد شمس، هذا الانتشار بل حتى تعدى قريش فأسلم بعض الناس من خارج قريش، من هذيل، مثل سيدنا عبدالله بن مسعود، هذا رجل من خارج قريش، من هذيل، وأسلم. وسنأتي لقصة إسلامه فيما بعد. فأناس من خارج حتى البيئة القريبة، مثل عمرو بن عبسة السلمي من بني سليم، كذلك مثل أبي ذر الغفاري من غفار. بعيد هذه الأماكن عن قريش.

فإذا هناك حركة نشطة تدل على نشاط السابقين الأولين إلى الإسلام. يكثر في هؤلاء فكرة أنهم شباب، ويكثر أيضاً في فكرة أنهم تجار. في هؤلاء السابقين الأولين إلى الإسلام، وذكرنا أن أشد ما يميزهم هو الإخلاص. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدهم بشيء إلا بالجنة. وكذلك فإن كثيراً منهم لم يحصل لا على مناصب فيما بعد ما قامت الدولة الإسلامية، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليهم من كان أكثر كفاءة في الإدارة منهم.

رغم أنه لم يكن قد مر على إسلامهم بضعة شهور. ضربنا المسل بسيدنا عمرو بن العاص، وسيدنا خالد بن الوليد، بعد إسلامهم بشهور لما فهم فيه من الكفاءة كانوا قادة سرايا وقادة جيوش، بينما رجل مثل أبي ذر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استعملني يا رسول الله". قال: "إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة". ولا نرى رجلاً مثل سيدنا بلال بن رباح مثلاً تولى منصباً فيما بعد.

فمما يميز أيضاً السابقين الأولين إلى الإسلام هي مسألة الإخلاص والتجرد. ذكرت أيضاً أن الدعوة الإسلامية قامت في بدايتها على ركنين أساسيين، وقلنا إن الركنين هذين هم الذين تثبت بعض الدراسات الحديثة أنهم الركنين الذين يحصل منهما الاختراق. حد فاكر؟ لا، أيوة بارك الله فيك، وهذه فرصة لكي أصحح المعلومة التي ذكرتها في المرة الماضية.

أنا ذكرت أن تقرير "راند" وهذه مؤسسة أمريكية بحثية مشهورة كتبت دراسة عن كيف تنتهي الجماعات الإرهابية. فهذه الدراسة بعدما استعرضوا كثيراً من الحركات الإسلامية وغير الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية، توصلوا إلى الآتي. أنا قلت المرة اللي فاتت إنه 34% من هذه الحركات بتنتهي بدخولها في العملية السياسية. أول ما تفتح المسار السياسي يحصل إيه؟ بتقدر تتجنب خطورة هذه الحركات. طبعاً دلوقتي أنا بتكلم من وجهة نظر أمريكية. يعني هي الحقيقة مش 34% هي 43%.

الخطأ من عندي أنا، تمام؟ 43%، وهذه أعلى نسبة. أعلى نسبة أن تصل إلى توافق أو يعني إلى إدخال وإدماج هذه الحركات في العملية السياسية. يليها مباشرة بنسبة 40% الاختراق الأمني. الاختراق الأمني الذي يسبب اغتيال القيادات الأساسية والرئيسية في الحركة. اغتيال القيادات الأساسية والرئيسية في الحركة يساوي انهيارها، يساوي انهيارها وانتهاؤها.

هذه ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مسألة حراسته كانت مسألة حاضرة منذ اللحظات الأولى، وأن النبي تخفى وكان في صحبة عصبت من بني هاشم. وسنأتي فيما بعد كيف أنهم دخلوا معه الشعب ليحفظوه. وسنرى حتى في إسلام السابقين الأولين ومنها إسلام أبي ذر، كيف أن النبي كان يتخفى حتى لا يعرف أين هو.

وفي مرة سنأتي لها لما ضرب وسأل أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنكرت المرأة أن تكون تعرفه، أن تعرف أين هو، لما رأت أم أبي بكر ولم تكن مسلمة في ذلك الوقت. ولما كان يسأل كان يقال في دار عند الصفا. يعني هناك عدد من الأمور سنأتي لها تفصيلاً، لكن تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخفى أحياناً بنفسه.

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد". يعني كان النبي أول من يُؤذى، وما كان لي من طعام إلا شيئاً يواريه إبطي بلال. يعني سيدنا بلال كان يتخفى ويخفي شيئاً تحت إبطي، هذا هو وطعام النبي صلى الله عليه وسلم. فهذين الركنين كانتا يعني كانا النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً عليهما في مسألة التربية والتزكية الإيمانية التي تمنع الإنسان من أن يعني يترك مبادئه أو أن تنهار تجربته مع وجود المكاسب والغنائم والإغراءات.

والمسألة الثانية هي مسألة التخفي والتكتم وعدم الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذكرنا أن هذه الفترة في حياة النبي استمرت حتى نزل قول الله تعالى: "والله يعصمك من الناس" فصرف النبي الحراسة.

أحسب أن هذا آآ يكون يعني تلخيصاً واضحاً لما ذكرناه قبل ذلك مع ما ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه. الآن لو أرادت أن نتصور حياة السابقين الأولين في الإسلام، فسنجده أول ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والذين أسلموا الصلاة، وكانت ركعتين في الغداة وركعتين في العشي، يعني ركعتين الصبح وركعتين بعد العصر، هذا أول ما نزل من الصلاة قبل أن تنزل الصلاة على الوجه المعروف الذي نحن عليه الآن.

فإن هذه قد فرضت متى؟ الإسراء والمعراج. تمام. لكن أول ما فرض من العبادات إذاً هو الصلاة. نزل جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، ثم علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا خديجة رضي الله عنها، وعلمها لصحابته.

في هذه الفترة، الفترة الأولى، نحن لو حاولنا أن نتصور ماذا كان يفعل السابقون الأولون بعد أن دخلوا إلى الإسلام، لن نجد أنهم تعلموا شيئاً من العبادات إلا الطهارة والصلاة فقط. يبقى هذا أمر خطير، هذا أمر خطير. أنت حين تجد أنه هذا الجيل الأول، هؤلاء السابقين، هؤلاء القادة، هؤلاء الأعمدة التي بني الإسلام عليها، كان أول ما تعلموه هو الطهارة والصلاة.

فيجب أن تعرف قدر الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحاديث كثيرة جداً، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين". وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب المرء عليه يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".

الصلاة يا أحباب هي العبادة الوحيدة، العبادة الوحيدة التي اختلف العلماء في تاركها كسلاً، مسلم ولا كافر. بقية العبادات الذي يتركها مع الإقرار بها، يعني خلينا نبقى عارفين.

الآن لو فيه واحد عنده زكاة ولا يزكي. عنده أموال ولا يزكي، أو عنده أموال ولا يحج، أو عنده قدرة على الصوم ولا يصوم. هنا في حالتين: هل تركه هذه العبادة جحود؟ يعني رفض، يعني يقول: أنا حر، دي حرية شخصية؟ تمام؟ الترك جحوداً كفر، تمام؟ وهنا مسألة ننبه لها كثيراً، لأن شبهة طالت. يعني المرأة مثلاً غير المحجبة السافرة المتبرجة، هذه إذا قالت إن الحجاب فرض وأنا يعني أعصي الله بالتبرج، فهذه مسلمة عاصية.

لكن لو واحدة محجبة قالت: لأ، الحجاب ده حرية شخصية، أتحجب ولا ما أتحجبش؟ هذه يُخشى عليها الكفر، لأنه هذا أيه جحد للحكم الشرعي. تمام؟ فالصلاة هي العبادة الوحيدة التي اختلف العلماء حول تاركها كسلاً، ليس تاركها جحوداً، الذي يترك أي شيء جحود، هذا كافر.

لكن الذي يتركها كسلاً، إهمالاً، عصياناً، الصلاة اختلف العلماء في تاركها كسلاً كافر ولا مسلم. واستند الذين يكفرونه إلى أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". هذه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تركها" يقصد الصلاة "حشره الله مع فرعون وهامان وقارون وأبي ابن خلف". هذا حديث أيضاً يفهم منه أن تارك الصلاة. طبعاً الذين لا يكفرون تارك الصلاة حملوا هذه الأحاديث على معنى الجحود أو على معنى الرفض.

تمام، نحن لا ندخل في المسألة الفقهية، لكن خطورة الصلاة على وجه التحديد لا تبلغها أي عبادة أخرى، ولذلك فالصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا تسقط عن المرء إلا أن غاب وعيه. يعني تسقط الزكاة عن من ليس عنده مال، تسقط الحج عن من ليس لديه استطاعة، الصيام عن المريض والمسافر، ويؤديها أو يكفر عنها على حسب الحالة.

لكن الصلاة يؤديها كل أحد ما دام في وعيه، حتى لو أنه يصلي بإصبعه، أو أنه يصلي بعينيه، أو أنه يصلي بقلبه، لا تسقط الصلاة. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الصلاة هي آخر ما ينقض من عرى الإسلام. النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن عرى الإسلام، فقال: "فأولها نقضاً الحكم". يعني أول ما سيدخل عليه الإنحراف، أول ما سيدخل عليه الإنحراف من معالم الإسلام وتعاليم الإسلام وشعائر الإسلام الحكم.

فالحكم سرعان ما سيتحول من الخلافة الراشدة ويدخل في الملك العضوض. وآخرها نقضاً الصلاة، آخر ما يتركه المسلمون من الدين هو الصلاة. المهم القصد أن نتصور أن السابقين الأولين لم يكلفوا في أول إسلامهم بشيء إلا بالصلاة.

تمام، فهذا أمر يعني يجب أن نتوقف عنده طويلاً. طيب الأمر الثاني: الصور. لو احنا يعني لو أننا تأملنا في حياة هؤلاء السابقين الأولين، ما هي السور التي نزلت؟ أول السور التي نزلت من القرآن الكريم، نحن ذكرنا طبعاً كما تعرفون، ذكرنا سورة العلق، وأن أول ما نزل: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، ثم المدثر أو المزمل، على هذا الخلاف البسيط بين العلماء والروايات التي جاءت في نزول السور القرآنية الأولى.

سنجد أنها تتحدث عن هذه السور: العلق، المدثر، المزمل، الفاتحة، الضحى، الأعلى، التكوير، المسد، هذه السور التي نزلت أول ما نزلت. نحن لو تأملنا أيضاً، يعني أردنا أن نتمثل حياة واحد من هؤلاء السابقين الأولين، وأردنا أن نرى ما هي القيم الأساسية، ما هي التعاليم الأساسية؟ ما هي المعلومات الأساسية التي تكررت في هذه السور؟ فسيبدو واضحاً لنا جداً أن هذه السور كان محورها وتركيزها على الإيمان بالله، وقدرة الله، وعظمة الله، والإيمان باليوم الآخر.

يعني تعالوا آآ نسمع مثلاً في قول الله تعالى: "يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلاً". "إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً، إن لك في النهار سبحاً طويلاً، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً، وزرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً، إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً يوم ترجف الأرض والجبال، وكانت الجبال كثيباً مهيلاً".

شف الجبل الضخم صلد السامق يتحول إلى الكثيب، الكثيب الذي هو آآ يعني التلة تجمع الرمل لتجمع التراب كثيباً مهيلاً. شف كيف انهار وانهد الجبل كما في قوله تعالى: "فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير". "ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً، وبقية الآيات"، كما في قول الله تعالى: "إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموؤدة سئلت: بأي ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم صاعرة، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت".

وتأمل في قوة الآيات وفي شدتها وفي يعني وقعها وسرعتها على النفس: "نون، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجراً غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم". والضحى والليل إذا سجى. على كل حال حين تتأمل في هذه الصور وتحاول أن تتمثل نفسية واحد ممن أسلموا، فنستطيع أن نقول إنه ما يتكون في نفس المسلم وهو يستمع إلى هذه الآيات، وهذه المعاني الكبيرة التي تتمثل في ذهنه بأن الله تبارك وتعالى خالق السماوات والأرض، مهيمن على السماوات والأرض، مدبر لما لأمر السماوات والأرض، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وأن الله تبارك وتعالى ينفرد بأنه مالك يوم الدين، مالك يوم الدين.

يعني الله تبارك وتعالى، آآ كان الشيخ الشعراوي له تفسير لطيف يقول: لماذا قال الله تبارك وتعالى "مالك يوم الدين" ولم يقل مثلاً "ملك يوم الدين"، وهي موجودة في قراءة ورش؟ يقول: الملك هذا كلام الشيخ الشعراوي رحمه الله، يقول: الملك هو من يملك أناساً يملكون أشياء، يعني لا يقال للرجل مثلي ملكاً. ليه؟ لأنه ما فيش تحت إيده حد يملك شيء.

لكن يقال للملك عليه ملك لأنه يملك من يملك، فهذا الذي يسمى ملك. أما يوم القيامة فلا يملك أحد شيئاً، ولذلك قال تعالى "مالك يوم الدين" لأنه لا أحد يملك شيئاً. طيب على وجه ملك يوم الدين، هؤلاء الذين كانوا يملكون الدنيا أو ظنوا أنهم يملكون الدنيا صار الله تبارك وتعالى الآن ملكاً عليهم منفرداً بالملك، وذلك نظير قول الله تعالى: "لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار".

فمعاني قدرة الله تبارك وتعالى، وتدبير الله تبارك وتعالى، وهيمنة الله تبارك وتعالى، ومعاني اليوم الآخر، وهذا الانقلاب الكوني كما رأينا في صورة التكوير، يعني كيف أنه هذا اليوم يقلب الدنيا. الشمس كورت، كورت يعني كورت وأظلمت، لفظ أظن واضح كورت وأظلمت، وإذا النجوم انكدرت يعني طمست، انطفأ نورها، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، والوحوش إذا الوحوش حشرت، أنت يعني أصلاً لو حد فيكم بيتفرج على ناشيونال جيوغرافيك مثلاً أو شيء ويرى سرباً من الوحوش، أن تتخيل كده يوم القيامة الوحوش محشورة مع البشر، المشهد رهيب.

أول المعاني هو المعاني المتعلقة بالإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر. هذا أول ما ينبغي أن يشكل نفس المسلم. والفارق بيننا وبين هذا الجيل القرآني الفريد هو أن هذا الجيل تلقى هذا الخطاب واضحاً صافياً بلغة مباشرة يفهمها. نحن تلقيناه وسط مشوشات كثيرة، وكنا محتاجين في تلقيه إلى شرح وتفسير، لكن القرآن نزل بلغتهم.

الأمر الثاني مما نلمحه أيضاً في هذه الصور، أمر الأسلوب. سنجد أن هذه السور قائمة على هذه الفقرات القصيرة، العبارات الواضحة المركزة، المعاني المباشرة. وهذا ينبغي أن يعني يلفت أنظارنا إلى أنه لابد لصاحب الرسالة أن يكون قادراً على صياغة الأفكار العظيمة التي يدعو إليها في عبارات قصيرة مركزة واضحة.

هذا أمر يطيل فيه المتخصصون في الإعلام، زي الجماعة الفنانين اللي هم إيه؟ بيصورونا دلوقتي، أكيد خدوا دورات في هذه الآية في هذه المعاني، وحتى علشان كده تجد أنه بعد ما كان بقى في نشرة أخبار، بقى في حاجة اسمها موجز الأنباء. بعد ما بقى في موجز أنباء، بقى في عناوين الأخبار. بعد عنوان الأخبار في القطع الموجزة، والآن نحن في عصر السوشيال ميديا، بعد ما كان في فيسبوك، بقى في تويتر مائة وأربعين حرف.

وبعد تويتر بقى فيه تيك توك، بقى فيه، تمام؟ يعني بالنهاية لابد، لابد من أن يستطيع المرء أن يلخص أفكاره الكبيرة في عبارات واضحة ومركزة وصغيرة. قبل ذلك يعني في الزمان القديم كان هذا هو معيار الحكمة. من هو الحكيم يا جماعة الخير؟ أنت لما بتسمع حتى نكتة ولا لما تسمع عبارة مأثورة، ما هو الحكيم؟ ما هي الحكمة؟ الحكمة هي القول القصير الصغير المختصر الذي يستطيع أن يلخص المعنى الكبير، الفكرة الكبيرة.

فأنت إذا تأملت في السور الأولى من القرآن الكريم، وطبعا في غالب سور الفترة المكية، فستجد أن أغلب السور في الفترة على هذا النحو: الآيات قصيرة، واضحة، مركزة، مباشرة. فارجع إلى القول من أنه لا يمكن أن تدعو الناس، ولا يمكن أن يعني تجذب أنظارهم، ولا يمكن أن تثير واذهانهم معك لو لم تكن لديك القدرة على أن تبدأ وأن تلخص ما تدعو إليه في عبارات قصيرة ومركزة.

وخير ما يدعى إليه، وخير ما نتعلم منه، هذا القرآن الكريم. وحقيقة، يا جماعة الخير، أفضل الدعاة إلى الله هو من يستطيع أن يستقي معانيه من القرآن الكريم. يعني الموفق هو من استطاع أن يدعم فكرته بالآية القرآنية وبالحديث النبوي، لأن هذه هي منتهى الحكمة. والله تبارك وتعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: "قل إنما أنذركم". ها؟ بأي؟ بالوحي.

فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنذار بالوحي. حقيقة، كلما ابتعدنا عن لغة القرآن الكريم، وعن روح القرآن الكريم، وبدأنا يعني بدأنا ندعو إلى الله على نحو المثقفين والمفكرين والباحثين والخبراء والمتخصصين، لا يستمع إلينا في نهاية الأمر إلا شريحة قليلة جداً. وهذه الشريحة غالباً ما تكون شريحة مريضة مليئة بأمراض النخب. يعني من يستطيع أن يدعو إلى الله تبارك وتعالى، أو أن يلخص أفكاره في آيات وأحاديث، هو من يستطيع أن يصل إلى الناس.

لكن من تعجزه نفسه أن يصل إلى هذا، ويظل محصوراً في أنه ممن يسهب ويستخدم الألفاظ الفخمة، هذا لا يستجيب ولا يستمع له في النهاية إلا أناس قليلون. إذا تأملنا أيضاً في هذه السور، وحاولنا أن نستفيد منها وأن نتمثل كيف تكونت نفسيات السابقين الأولين إلى الإسلام، فسنرى أن هذه الآيات لم تكن خطاباً عقلياً فقط، بل كانت خطاباً روحياً وقلبياً وعاطفياً أيضاً. الإنسان روح وعقل، فكر وعاطفة.

فأنت إذا خاطبت فكر الإنسان وحده، ممكن تحصل على مستشرق. يعني إيه الفارق بين المسلم وبين المستشرق يا جماعة الخير؟ المستشرق ربما يكون في رأسه من المعلومات عن الإسلام ما ليس في أذهان تسعة وتسعين في المئة من المسلمين. هذا مجاله تخصصه، هو يدرس الإسلام. طيب لماذا لا ينفعل المستشرق ولم يسلم منهم إلا القليل؟ لأنه معلومات في الدماغ فقط، هذه المعلومات لا تخالط بشاشتها القلوب.

بينما المسلم إذا سمع آية تأثر، إذا سمع حديثاً تأثر، ويمزج ذلك بالفعل والاستجابة، سمعنا وأطعنا. فانت إذا أردت أن تحادث الناس على نمط المعلومات العقلية، فانت بتحاول تعمل مفكرين باحثين مستشرقين. تمام؟ زي كده الفارق مثلاً ببساطة، يعني ولو حاولت أقرب الصورة، الفارق بين الدكتور اللي بيطلع بعد المحاضرة يدخن، هو دلوقتي بيدرسك في المحاضرة التدخين وضرر التدخين، صح، إنما هو لما بيطلع برة المحاضرة بيعمل إيه؟ أو ممكن يشرح لك أضرار الخمر.

لكن هو بالليل بيعمل إيه؟ يشرب الخمر. ليه؟ ليس قادراً على تحويل المعلومات الموجودة في رأسه إلى إيمان، إيمان يحرك قلبه ويتحكم في مشاعره. ولذلك نحن سنرى بعد قليل أن كفار قريش كانوا يفهمون الإسلام ربما أكثر من كثير من المسلمين الآن. لكن ما الفارق؟ لماذا يدخل هؤلاء النار، ولماذا يدخل هؤلاء الجنة؟ الفرق هو هذا الانفعال القلبي الإيماني.

فأنت حين ترى هذه السور من القرآن الكريم، فترى أنها لم تكن خطاباً عقلياً بارداً، لم تكن خطاباً نظرياً فكرياً، وإنما كانت خطاباً إيمانياً تربوياً. وهذا ما يجب أيضاً أن نتعلمه. ملاحظة أخرى في السور الأولى، مثل هذا الذي ذكرته مثلاً من سورة التكوير، هذا الذي ذكرناه من سورة القلم. يعني الآن أنت حين تسمع: "إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت". هل ترى نفس المؤمن؟ هل تستقبل هذا باعتباره مجرد ظواهر طبيعية؟

وإنما تأخذها بانفعال أن هذا يوم القيامة، وأنه أمر شديد. "وزرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً، إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً". يوم ترجف الأرض والجبال، وكانت الجبال كثيباً مهيلاً. فهذا الذي أعنيه، أنه الآيات حين تقرأها، لا تقرأها باعتبارها مجرد معلومات نظرية.

يعني الله تبارك وتعالى لا يقول مثلاً: "هناك يوم القيامة"، وإنما يقول: "ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين؟". "عما يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟". "الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر". يعني ظللتم تتنافسون في الدنيا وتتكاثرون، يحاول بعضكم أن يتكاثر من الأموال والأولاد حتى زرتم المقابر.

"كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون". وهكذا في آيات القرآن الكريم. القصد أنه الخطاب لم يكن خطاباً عقلانياً معلوماتياً مجرداً، لم يكن يخاطب العقل وحده ويكشف أمامه حقائق جديدة، بقدر ما كان يخاطب العقل والروح في آن واحد.

تمام، الأمر الثاني: أيضاً هذا مما يهم الدعاة إلى الله ويهم المصلحين، وهو الأمر الرابع، أن هذه الآيات لم تنشغل بتقديم تفاصيل النظام الإسلامي البديل. المفترض أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة تغير الدنيا وتغير النفوس. صحيح، لم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول: كيف سيواجه الربا؟ كيف سيواجه الزنا؟ كيف سيواجه الخمر؟

تمام، كل هذه أمور لا تطرح قبل هذا البناء. البناء العقدي والإيماني والفكري. طبعاً نحن في عصرنا هذا ستكون الأمور واضحة؛ لأنه أول ما يبقى في أي حد إسلامي مرشح إسلامي كاتب إسلامي، أول حاجة بيطير، إيه: "تعمل إيه في الخمر؟ تعمل إيه في الشواطئ؟ تعمل إيه في السياحة؟ تعمل إيه في البنوك؟ تعمل إيه في الفن؟ تعمل إيه في الآثار؟".

يعني يجب أن يكون معلومة أنه الدعاة والدعوة في أول مراحلها لم تكن تنشغل بتقديم تفاصيل هذا النظام. النظام البديل. لأنه حقيقة، أنا أحكي لكم من تجربة واقعية. يعني الآن الخلافة الإسلامية مثلاً سقطت منذ مائة سنة. تمام، المكتوب يا جماعة الخير في تفاصيل النظام الإسلامي لا يكاد يعد ولا يحصى.

يعني من الخطأ الشديد من يقول لك إن الإسلاميين عندهم فقر في التنظير أو ما حدش عارف الإسلام الذي هم بيدعوا له، ولا الدولة الإسلامية دي شكلها إزاي. الكليات والجامعات الشرعية والكليات السياسية مليئة برسائل الماجستير والدكتوراة التي تتحدث عن النظام الاقتصادي الإسلامي، والنظام الاجتماعي الإسلامي، والنظام السياسي الإسلامي.

لكن كل هذه الكتب وكل هذه الدراسات، حقيقة، لا قيمة لها. ليه؟ لأنه ليست لديها فرصة للنزول والتطبيق. يعني الآن إذا أتيحت فرصة إقامة نظام إسلامي، لن يلجأ أحد إلى الكلام المكتوب من خمسين وستين وسبعين سنة، لأن الواقع نفسه تغير وفرض تغيرات كبيرة.

فحقيقة، لا الذين كتبوا استطاعوا إقناع الأعداء ولا الذين سينفذون سيستطيعون الاستفادة من تفاصيل ما كتب قبل ذلك. فلذلك حتى من نهج علمائنا الذي هو: "لا يفتي في المسألة إلا حين تقع". وكانوا يسمون هؤلاء الذين يسألون عن أمور لم تقع يسمونهم "الأرأيتيين". اللي هو دائماً بيسأل: "أرأيت لو حصل كذا كذا ماذا نفعل؟"

فكان بعضهم يجيب: "إن وقعت، تجشمناها لكم". يعني سأجيب لك في النهاية. القصد، يا جماعة الخير هنا أنه هذه الآيات الأولى لم تنشغل، ولم تسفر، ولم تتحدث عن تفاصيل هذا النظام الإسلامي البديل.

أصلاً تحريم الربا من يعرف تحريم الربا متى حرم الربا؟ في سنة تسعة للهجرة، قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم. يعني قبل موت النبي بسنة وسنة ونيف، حرم الربا. تمام؟ هنا حقيقة في ملاحظة مهمة، وهذه استفدتها من الشيخ مجدي الهلالي، دكتور مجدي، أسأل الله أن يشفيه ويعافيه. من خير من يكتب في مسائل الرقائق والروحانيات، كان يقول: "إذا نحن تأملنا في حياة السابقين الأولين، نحن ذكرنا المرة اللي فاتت أن السابقين الأولين فرض عليهم قيام الليل".

فكانوا يقومون أغلب الليل. فيقول الدكتور مجدي: "لو نحن تأملنا أن في حياة هؤلاء الناس سنجد أن القرآن الذي نزل إليهم في ذلك الوقت كان قليلاً". يعني القرآن لم يكفِ كل هذه الساعة من قيام الليل. وبالتالي فيجب أن نعتقد أن قيام الليل كان أكثره الركوع والسجود، لأنه نسبة القرآن نفسها قليلة، وبالتالي فيجب أن تتصور على هذا النحو كيف كان السابقون الأولون إلى الإسلام.

طيب هنا ذكرنا في المرة قبل الماضي، قلنا فترة الدعوة الخاصة استمرت كم سنة؟ ثلاث سنوات. بعد هذه السنوات الثلاث، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة. يبقى عندنا ثلاث سنوات من الاصطفاء، الانتقاء، الاختيار على هذا النحو من الشخصيات.

هذا الاصطفاء، هذا الانتقاء، هذا الاختيار أثَّر في قريش بل وفي خارج قريش معرفة بهذه الدعوة الجديدة. يقول كتاب السيرة: "فشى ذكر الإسلام في قريش". وهذا شيء طبيعي، نتوقع أن هذا الفسوق. لأنه عندنا ناس من قبائل متعددة، عندنا ناس في طبقات مختلفة، من أول أصحاب الحسب والنسب إلى الأرقاء والعبيد والموالي، ناس من داخل قريش وناس من خارج قريش.

فطبيعي يحصل نوع من المعرفة بهذا الدين. طيب، ومع ذلك كيف كانت قريش تستقبل هذه الأخبار وهذه الأنباء؟ أبداً ما عملت حاجة. مما لا نعرفه أنه قريش كانت آآ يعني مجتمع حريات.

لو أريد أن أقربه بالألفاظ العصر، فكان مجتمع علماني. قريش، نحن ذكرنا بعض ذلك حين تحدثنا عن الجاهلية التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم، قريش دي كان حوالين الكعبة لوحدها ثلاثمائة وستين صنم. تمام؟ يعني عندهم حرية تسمح بثلاثمائة وستين إله، واللي مش عايز يعبد واحد من ثلاثمائة وستين، برضه هو حر. يعني النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أبو بكر لم يسجد لصنم ولم يمس صنماً.

حد كلمه؟ لا، أبداً. ده كان رجل صادق أمين، برضه وحكيم، وحكموه في مسألة بناء الكعبة. إحنا ما كانش عندهم مشكلة إنه يعيش في هذا المجتمع، ولكل قوم صنم، ولكل بيت صنم. واللي مسافر لو عايز ياخد صنم معاه، ياخد. لو مش عايز ياخد صنم، يعمل له صنم من أي حجارة يلقاها في الطريق.

يعني إحنا عندنا إيه، مساحة واسعة، وورقة ابن نوفل كما ذكرنا تنصر وقرأ الكتاب، وظل موجوداً بدون اضطهاد. مجتمع حريات وحقوق وعلمانية، يعني إيه؟ زي ما انت عايز. طيب، مثلاً، أبو بكر وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم اجتنبوا الخمر، لم يشربوا الخمر أبداً.

حد قال لهم لازم تشربوا الخمر؟ يعني إذا بنتكلم عن قريش، فقريش دي ربما تكون أحسن من أوروبا الحالية في الحريات والحقوق والحفاظ على التنوع الديني والثقافي. لأن انت حتى لما بتروح دلوقتي، لو رحت الغرب، وشم منك كده يعني أنك مش موافق على موضوع الشذوذ، تبقى مشكلة، وممكن يسحب منك الأولاد، ويحس إن أنت معادٍ للسامية مباشرة.

فقريش كمجتمع علماني، كمجتمع علماني إيه؟ ممتاز، زي ما الكتاب بيقول. فلذلك هم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني مجرد إيه؟ متحمس أحد الحنفاء. نحن ذكرنا أن قريش كان فيها بعض المتحنثين للحنفاء، وذكرنا منهم زيد بن عمرو بن نفيل، الذي هو أبو سيدنا سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة.

وهذا رجل من بني عدي، وهو عم عمر ابن الخطاب. زيد ابن عمرو بن نفيل، وسيدنا عمر ابن الخطاب. عمر ابن الخطاب ابن نفيل، تمام؟ فما عندهمش مشاكل. والله واحد عنده فكرة، ولا عنده، يعني، رؤية، ولا عنده رأي، محتفظ به لنفسه. لم يأتي شيء. ولذلك هذا يدفعنا إلى التأمل والنظر: لماذا انقلبت قريش كل هذا الانقلاب أول ما جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة؟

قال له: لأ، هو عنده ثلاثمائة وستين صنم، إيه مشكلته دلوقتي لو خليناهم ثلاثمائة واحد وستين؟ في ناس هيعبدوا الله، إيه مشكلته أن يبقى فيه ثلاثمائة واحد وستين معبود؟ سنأتي إليه. لكن المهم نزل قول الله تبارك وتعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، أو نزل قول الله تعالى: "فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين"، وكانت هذه هي اللحظة الفارقة بين الدعوة الخاصة بعد ثلاث سنوات، وبين مرحلة الجهر بالدعوة.

طيب، هنا روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لما نزلت: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، الجبل. نقدر نقول دلوقتي بمثابة قناة، القناة الرسمية تعني وسيلة الإعلام الأهم، خرج على جبل الصفا وهتف: "وصباحاه". وهذه من أساليب الإنذار عند العرب.

وصباحاً، يعني كأنه يقول: جاءكم الصبح بالنذير أو بالخبر المهم، ويا صباح. قال: "فاجتمعوا إلي"، فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل"، وفي رواية: "أن خيلاً خلف هذا الوادي توشك أن تغير عليكم. أكنتم مصدقين؟". قالوا: "نعم، ما جربنا عليك كذبا". قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".

قال فقام أبو لهب فقال: "تبا لك، هذا جمعتنا". فانزل الله تبارك وتعالى: "تبت يدا أبي لهب وتب". طيب، في رواية أخرى أيضاً عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما جهر بالدعوة أن قام في الناس خطيباً، وصار ينادي: "يا معشر قريش، يا بني قصي، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، اعملوا، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، اعملوا لأنفسكم، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس يا عم رسول الله، اعمل، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية يا عمة رسول الله، اعملي، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً".

فهذه كانت الصيحة الأولى التي سمعها العرب من النبي صلى الله عليه وسلم. طيب، احنا طبعاً يعني لدينا وقفة واضحة ومهمة في قوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي توشك أن تغير عليكم، أكنتم مصدقين؟". قالوا: "ما جربنا عليك كذبا". حقيقة، يا جماعة الخير، الصدق رأس مال الداعية.

الصدق رأس مال الداعية. ولذلك يجتهد كل صاحب دعوة سواء كان مصيباً أو مخطئاً، محقاً أو مبطلاً، أن يثبت أنه صادق. صح، أنتم معي في الموضوع ده؟ والخدش في الصدق خدش في أصل الدعوة. الإنسان الكذاب، صاحب المصلحة، المتآمر، ذو الغرض، الذي لا يعرف بالاستقامة، نادر أن تستقيم له دعوة.

صح، لكن حتى الذين يستطيعون أن يقهروا الناس على ما يريدون بالقوة، بالسلاح، بالسطوة، يحرصون على أن يظهروك كصادقين. إحنا عندنا الأستاذ عبد الفتاح السيسي نموذج، دائماً نقول: "أنا شريف قوي، ونزيه قوي، وأمين قوي". بس أول أمس كان بيقول: "أروح من ربنا فين لو أنا اللي بحاصره، لو أنا اللي قافل معبر رفح، وأنا رجل صادق".

المهم، مهما استطاع الإنسان أن يقهر الناس بسطوته وقوته، هو يعرف من نفسه أنه لابد أن يدعي الصدق. الصدق رأس مال الداعية. ولذلك وقد ذكرنا قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أصل تصديقه هو ما عرف عنه بأنه الصادق. لأنه الذي يزعم النبوة كما ذكرنا قبل ذلك هو رجل من رجلين، يعني له احتمال من اتنين: إما أنه لم يكذب قط، وإما أنه كثير الكذب.

الذي يقول: "أنا رسول يوحى إلي"، إما أنه سيخترع في كل يوم كذبة، أو أنه لم يكذب قط. تمام؟ والنبي صلى الله عليه وسلم ظل يجتهد في أن يثبت لقومه هذا، فيقول: "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم، ولا أدراكم به، فقد لبست فيكم عمراً من قبله". ولذلك أول ما أحرج النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً أن سألها هذا السؤال، وطبعاً هذا سؤال في غاية الإحراج. هو يشبه أن يخرج علينا رجل مثلاً في القناة الرسمية الحكومية، وسيلة الإعلام الرسمية، ويقول: "يا أيها الشعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن أمريكا ستلقي قنبلة نووية على بلدنا، أكنتم مصدقين؟".

خبر مستحيل، خبر غريب. "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي توشك أن تغير عليكم، أكنتم مصدقين؟" ومع ذلك أقروا بأنهم يصدقونه؛ لأنهم لم يجربوا عليه كذبا قط. طيب، أول ما قال لهم: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، خرج من قال له: "تبا لك، هذا جمعتنا". وهذا المفروض يكون موقفاً مدهشاً لأنه إذا أقررت بنفسك كما قال الله تبارك وتعالى: "فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون".

ما هو، يا جماعة، برضه الصدق ده مكلف. تمام. يعني مش عايز أضرب أمثلة تسيء الأحزان الآن، بس قصدي القول، النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ هذا الإقرار من قومه بأنه صادق، كان هذا أول حجة تقوم عليهم في أن يتبعوه. لكن الإشكال فين؟ الصدق ده المعلومة دي مش مريحة. أحياناً الإنسان يحب أن يتوهم؛ لأنه الصدق مكلف. طبعاً، سم تنزل به المصائب والكوارث، لأنه لم يرد أن يصدق.

الشيخ الغزالي رحمه الله كان له كلمة جميلة، كان يقول: "لو أن قريشاً حين عرض عليها محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء به فنظرت فيه، ووزنته، وتأملته، لما عابها عاقل". ولكنهم تعاملوا مع دعوته كما يتعامل اللص في ساحة المحكمة. نفروا من دعوته نفوراً. لص إذا قبض عليه متلبساً بالجريمة، هل تذكرون لما تكلمنا أن هؤلاء الناس أرادوا أن يعيدوا بناء الكعبة، فلم تكفي أموالهم الحلال أن يبنوا الكعبة؟ فهذا مجتمع يشهد على نفسه بالانهيار، الانهيار والفساد الأخلاقي.

وبعدين، انت خد بالك، والتقط قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". كلمة "لا إله إلا الله" فهمها كفار قريش من اللحظة الأولى بأنها دعوة، بمصطلحنا المعاصر، علشان أقرب الصورة، دعوة لإسقاط النظام. يعني كلمة "لا إله إلا الله" دي وقعت في ذهن القرشيين مثلما أقرب الصورة الآن، وقعت كلمة "الشعب يريد إسقاط النظام" مثلاً في أذهان الحكام. هو عنده ثلاثمائة وستين صنم، لكن الكلمة دي ليست إضافة معبود جديد للتلاثمائة وستين، الكلمة دي هي نسف للتلاثمائة وستين صنم.

ولذلك هذا المجتمع المليء بالتنوع والحريات والتعدد، واللي عايز يعبد يعبد، واللي مش عايز يعبد ما يعبدش، انقلب رأساً على عقب لما سمع "لا إله إلا الله". آآ دعوة مربكة ومذهلة. الآن لن يسعنا الوقت أن نفصل فيه. بس لو إحنا دلوقتي يعني بهذا التقريب، أحاول أن أقارن لكم بين "الشعب يريد إسقاط النظام" وبين "لا إله إلا الله".

ستجد أن "لا إله إلا الله" دعوة هدم، يعني الشعب يريد إسقاط النظام دعوة هدم، لكن "لا إله إلا الله" دعوة هدم وبناء. أو كما يقول علماؤنا: "لا إله إلا الله نفي وإثبات". بات نفى الألوهية عن بقية الآلهة، وأثبتها لله تبارك وتعالى. يعني إيه "لا إله إلا الله" كما فهمها العرب الأوائل؟ يعني لا حاكمية، لا سيادة، لا مرجعية إلا الله تبارك وتعالى. وهذا يساوي، حقيقة، تغيير هذه الحياة.

بل يساوي ليس فقط تغيير النظام السياسي والاجتماعي والثقافي الموجود في مكة، بل يساوي أيضاً الحروب التي ستنشب في جزيرة العرب دفاعاً عن هذا النظام القديم. ولذلك ستجدون، يا جماعة الخير، في كل مراحل السيرة، ستجد العربي يفهم من اللحظة الأولى أنه "لا إله إلا الله"، يعني يقول مثلاً: "أبو الهيثم بن تيهان في العقبة: يا قوم انظروا على ما تبايعون هذا الرجل، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس".

عتبة بن ربيعة لما رجع من مناظرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: "دعوا هذا الرجل وما هو فيه، فإن تصيبه العرب، وان يوصي بالعرب، فهم في لحظة أو فاهموا ببساطة أن هذه الدعوة دعوة ذات تكاليف ودعوى ذات حروب، لأن تغيير نظام عريق مستقر. ولذلك ستجدون، يا جماعة الخير، في كل مراحل السيرة، ستجد العربي يفهم من اللحظة الأولى أنه "لا إله إلا الله"، يعني يقول مثلاً: "أبو الهيثم بن تيهان في العقبة: يا قوم، انظروا على ما تبايعون هذا الرجل، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس".

هذه كانت إحدى النقاط المهمة في تشكل هذه الدعوة. وقد ورد عن كثير من الصحابة أنهم كانوا يفهمون من هذه الدعوة أنها ستجلب الأذى، وأنها ستقلب الحياة رأساً على عقب. ولذلك كان الموقف من هذه الدعوة شديداً، وكانت التحديات كبيرة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.