30 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

السيرة النبوية | 4. لماذا بعث النبي ﷺ من العرب؟

السلام عليكم ورحمة الله، بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم اجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم ولا تجعل لأحدٍ سواك فيه شيئاً يا رب العالمين.

مرحباً بكم أيها الإخوة الأحباب. في الحلقة الماضية يعني هذا هو المجلس الرابع، في الحلقة الثالثة تحدثنا عن الجاهلية التي كان عليها العالم في لحظة مولد النبي صلى الله عليه وسلم. والهدف من الحديث عن الجاهلية أن نفهم قول الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". لأنه لا يمكن أن نفهم كيف كان نبينا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين إلا إذا عرفنا الفساد الذي كان موجوداً في ذلك الوقت. وتكلمنا عن الأحوال في فارس وفي الروم وفي الهند وبقية المناطق، وجئنا لنتكلم عن الوثنية عند العرب فانقطع علينا الوقت.

فنستكمل ما كان العرب فيه. ذكرنا أن العرب قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية العربية كان عندهم وثنية شديدة، كان لكل قبيلة وثن ولكل بيت وثن، والكعبة حواليها 360 صنماً، يعني حول الكعبة 360 صنماً. والمجتمع المكي بالمصطلح المعاصر يعني كان مجتمعاً متنوعاً دينياً، مجتمعاً متحرراً ليست لديه مشكلة في أن تعتنق أي الأديان شئت، يعني أن تعبد هذا الصنم أو ذاك الصنم، أن تكون يهودياً، أن تكون مسيحياً، أن تكون بلا دين، كل هذا يتقبله العرب في الجاهلية فلا بأس عندهم في هذا. وهذا سنحتاجه حين نجيب على سؤال: إذا لماذا وقف العرب وقفة رجل واحد أو وقفة شديدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ يعني إذا كانوا قبلوا 360 صنماً، لماذا لم يعتبروا الإسلام الصنم 361؟ لماذا الإسلام تحديداً؟ هذا سنأتي له فيما بعد. ولكن الوثنية الشديدة وتعدد الأديان كان موجوداً عند العرب.

وذكرنا أيضاً أن العرب كانت عندهم مظالم كثيرة، فكانوا يغيرون على بعضهم البعض، وكانوا يسلبون، يعني يسلبون الأموال ويهضمون حق الضعيف ويسيئون الجوار. وتوقفنا حتى عند حديث جعفر رضي الله عنه، جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يصف ما حصل فيهم للنجاشي، فقال: "أيها الملك، كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي فينا الضعيف". فهذه حالة المجتمعات غير المهتدية بدين، لأنه يا جماعة الخير، الأخلاق لابد أن يكون أصلها دين، الأخلاق لابد أن يكون أصلها دين، وإلا فما معنى الأخلاق؟ يعني لماذا تلتزم الصدق إذا كانت مصلحتك المادية في الكذب؟ لماذا تتعفف عن القتل إذا كان القتل هو من يحقق لك المكسب أو من يزيد من نفوذك أو من يزيد من سطوتك وقوتك وجبروتك؟ فالأخلاق لابد أن يكون لها أصل ديني.

لأنه لا معنى للأخلاق بدون دين، لا معنى للأخلاق بدون دين. حتى الملحدين المعاصرين، أحد أهم الألغاز التي لا يستطيعون الإجابة عليها هي مسألة الأخلاق. لأنه إذا كان الإنسان متطوراً من الحيوان، والحيوان متطوراً من حيوان أدنى، والحيوان الأدنى متطوراً من خلية، وكل هذا الكون متطور أصلاً من ذرة واحدة أو من خلية واحدة، إذا كان الإنسان مثله مثل الحيوان مثل الجماد، فلماذا يكون للنفس الإنسانية أي احترام أو أي قداسة؟

يعني الآن هذه المنضدة التي أجلس عليها، هذه القارورة أو الزجاجة، كانت مادة، وجد الإنسان من مصلحته أن يقطعها وينشرها ويشكلها كما يريد لكي تحقق له هذه المنفعة، ولم يجد في هذا حرجاً أخلاقياً، صح؟ طيب، ما المانع أن يذبح الإنسان إذا كان هذا من مصلحته؟ إذا كان الكل صدر عن مادة واحدة، إذا لم تكن هناك تعاليم ربانية مقدسة تعطي لأي شيء قداسة، فكل الأشياء واحد. يعني لماذا مثلاً نمتنع عن تعذيب الحيوانات؟ بعض الناس الساديين الذين لديهم انحرافات نفسية يجدون لذتهم في تعذيب الحيوان، صحيح؟ وأحياناً في إحراقه. ولعل بعضكم إذا زار اليوتيوب يجد أشياء من هذه الأمور.

فالخلاصة هنا: الأخلاق ليس لها معنى إذا لم يكن لها أصل ديني، تمام؟ فأي مجتمع جاهلي لا يلتزم بدين لابد أن يأكل القوي فيه الضعيف. لابد أن يأكل القوي الضعيف طالما لا يوجد دين، لا يوجد مقدس مفهوم. ولذلك أكثر الفئات المظلومة بشكل عام عبر التاريخ هم النساء وهم العبيد وهم الأطفال. لأنه بالنهاية، يعني المجتمع العربي مثلاً كان يؤيد البنات، يؤيد البنات وأحياناً يقتل الأولاد. كان ذلك متعلقا بالبنات لأنه فيه معنيين: معنى أنها بنت قد تأتي له بالعار، ومعنى أنه قد يفتقر من أجلها. "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق"، وفي الآية الأخرى "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق". فأحياناً كانوا يقتلون أولادهم من الذكور ومن الإناث، لكن الإناث كانت أكثر. فبشكل عام، الضعفاء في أي مجتمع جاهلي لابد أن يُوكلوا، تمام؟ هذا سواء في مجتمع العرب أو في غير مجتمع العرب.

من المفاسد التي كانت في العرب أيضاً المسائل الاجتماعية، ذكرنا في المرة الماضية أن الرجل كان يرث من أبيه زوجات أبيه، فهو إما أن يمسكها فيُعطل، وإما أن يزوجها إلى من يريد ويقبض مهرها، وإما أن يتزوجها بعد أبيه. وقد قال الله تبارك وتعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". ومن المفاسد الاجتماعية التي كانت موجودة عند العرب أيضاً أنواع الأنكحة. سبحان الله، رغم أن العرب، وهذه من بشائع الجاهلية، رغم أن العرب عرفوا بالنخوة، أو يرى أنه وسيم فيريد أن ينجب لنفسه ولداً، فيقول لامرأته: اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، يعني باتِ معه، نامي معه، ثم لا يقربها حتى يتبين حملها منه لكي يحسن نسله. هذه كانت من بشائع الجاهلية. وكان بعض النساء يدخل عليها الرجال العشرة، هذا نوع آخر. فإذا أنجبت ولداً ألحقته بمن تشاء، فلا يستطيع أن يمتنع. وكان ربما أصاب المرأة أكثر من رجل، فإذا أنجبت ولداً جاءوا بمعنى النسابة الذين يفرسون في الملامح فينسبونه إلى من يحتمل أن يكون ولده، فلا يمتنع منه أيضاً.

طبعاً، كان هناك شرب الخمر وكان كثيراً، بل إن العرب لهم في الخمر أشعار، أشعار طويلة وعريضة جداً. ومن يقرأ منكم معلقة امرئ القيس، يعني امرؤ القيس شاعر الخمريات المشهور، طبعاً هذا في الجاهلية قبل أن يأتي شاعر الخمريات الثاني الذي هو أبو نواس. فالقصد هنا أن العرب، رغم ما عُرفوا به من غيرة ومن نخوة، إلا أنه كانت تنتشر فيهم المفاسد المتعلقة بالشهوات، لأنه في النهاية لا دين ينهاهم عن الشهوات. فكانت توجد عندهم الرايات الحمر، صاحبات الرايات الحمر، التي هي بمثابة الآن بيوت الدعارة أو الملاهي الليلية. كل هذا كان موجوداً عند العرب.

والعرب كان عندهم الربا الفاحش، كانوا يتعاملون بالربا فيما بينهم، والربا هذا هو أمر يزداد به الغني غنىً ويزداد به الفقير فقراً. فهذا أيضاً كان من المفاسد الموجودة عند العرب. لذلك لو جمعنا هذه الوثنيات، هذه الأحوال الموجودة عند العرب من الوثنية ومن الانحلال الاجتماعي، وكذلك ما كنا ذكرناه في المرة الماضية من الوثنيات الموجودة والفساد الموجود عند غيرهم من الأمم، فهمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب".

ومع ذلك، بُعث النبي في العرب. وهذا هو السؤال المهم الآن، وهو السؤال الذي يهتم له الراغبون في الإصلاح. فنحن يجب أن نتأمل وأن نتفرس لماذا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في العرب تحديداً، رغم أن كل هذه الأمم كانت تصدر في الضلال وفي الجهالة. وبالمناسبة، المجتمعات الجاهلية لم تكن تسمي نفسها مجتمعات جاهلية، هم كانوا يرون أنفسهم مجتمعات متحضرة ومتقدمة، ومصطلح الجاهلية هذا هو باعتبار ما عرفه المسلمون بعد ذلك من فضل الإسلام، فسموا ما كانوا فيه الجاهلية حين كانوا جاهليين.

طيب، هنا سنجد بعض الخصائص التي تميز بها العرب عن بقية هذه الأمم. الخصيصة الأولى: ابن خلدون له تفريق لطيف جداً في قول الله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". فيرى ابن خلدون أن الشعوب هي الشعوب التي استبد بها الملوك فصارت شعوباً، شعوباً يعني محكومة بنظام سياسي قوي وقاهر فصارت شعوباً. والقبائل هم الذين لم يخضعوا للملوك، فما تزال فيهم عزّة، عزّة نفوسهم لم يخضعوا لملك. العزة هذه هي أهم ما كان يوجد عند العرب في الجاهلية. ذكرنا في المرة الماضية أنه صحيح، العرب عرفوا بعض الملوك مثل الغساسنة في الشام والمناذرة. المناطق التي كان فيها ملوك لم يكن العرب مستذلين لهؤلاء الملوك، تمام؟ وذكرنا لكم أكثر من مرة أنهم كانوا يتفاخرون بما هم عليه من الأنفة والعزة ورفض حكم الملوك.

الأمر الثاني أن العرب صحيح كانت فيهم فوارق طبقية، لكنها كانت عندهم أدنى منها عند غيرهم. يعني ذكرنا الفوارق الرهيبة التي كانت بين الملوك ذوي الدم الأزرق وبين الحاشية وبين العبيد، وذكرنا النظام الطبقي في الهند. صحيح، العرب كان عندهم عبودية، وكان عندهم عبيد، وكان عندهم إماء، وكان عندهم موالي، ولكن الفوارق التي وضعها العرب أو التي سادت في الحياة الاجتماعية العربية لم يكن فيها هذا التوحش ولا هذا الاستبداد ولا هذا البطش ولا هذا الإذلال للعبيد، تمام؟ بل مما يُذكر في محاسنهم أن العرب كانوا يسمون العبيد الأسماء الجميلة الحسنة، تمام؟ لأن هؤلاء عبيد يتجملون بهم. وسُئل أحدهم: لماذا تسمون أولادكم الأسماء المخيفة المرعبة، مثل حرب وحنظلة وصخر والأسماء القوية مثل أسامة (يعني أسد) وقصورة (أسد) وعباس، كلها أسماء، لكن العبيد يسمونهم أسماء حسنة، حسنة، حسنة. هذا من أسماء بلال من أسماء العبيد، طبعاً فضلاً عن أسماء الجواري من النساء تكون برضه أكثر رقة. فقال: نسمي أبناءنا لعدونا ونسمي عبيدنا لنا، لأن المراد بهذه الشدة أن يُقذف الرعب في قلوب مَن؟ العدو. لكن العبيد هؤلاء لنا. فعلى كل حال، صحيح العرب كانت فيهم الفوارق الطبقية، لكن لم تكن فيهم الفوارق الطبقية كالتي كانت في غيرهم، فكانوا أقرب الناس لطباع الفطرة الأولى، تمام؟

من الخصائص التي تميز بها العرب أنهم قوم لم تستهلك عقولهم الفلسفات. يعني لا تجد عندهم مثلاً الجدالات البيزنطية. طبعاً أنت الآن لكي تفهم هذا، يعني عايز أقول: ادخل مكتبة وامسك كتاب فلسفة، أو يعني ادخل موقعاً لمركز بحثي، أو اجلس أمام قناة ثقافية، فستجد الكلام البسيط يُقال بألفاظ فخمة ومعقدة وتركيبات. العرب لم يكن عندهم هذا. لم يكونوا كالبيزنطيين ولم يكونوا كالفرس ولم يكونوا كالهنود. الهنود عقيدتهم معقدة جداً ولم يكونوا كالصينيين. العقول، بالمعنى الإيجابي، بالمعنى الحسن، الحسن حسن والقبيح قبيح، تمام. كانت لديهم استقامة شريفة، العربي لا يكذب. فهؤلاء كانوا أنسب لنزول الرسالة فيهم من القوم الذين يحبون التعقيد. وأنا أتذكر [موسيقى] الكولونيل، يعني رجل بريطاني مستشرق اسمه رونالد فيكتور بودلي، له كتاب اسمه "الرسول: حياة محمد". هذا الرجل عاش بين العرب فترة وكتب هذا الكتاب تأثراً بالعرب. فمما يقول، له عدد من الكتب الجميلة، لكن مما يقول: إن الإسلام لو كان نزل في الأوروبيين لم يكن لينتشر فيهم، لأن الإسلام دين واضح بسيط، لكن نحن الأوروبيون معقدون، فالإسلام يلائم قوماً بسطاء، والعرب حقاً غير معقدين.

فمن مزايا العرب أيضاً أنهم كانوا على استقامة فكرية وذهنية، المسألة الواضحة لا يفلسفونها ولا يغمضونها ولا يكثرون من التفريع والتشقيق فيها، وبالتالي كانوا أليق لنزول الرسالة، تمام؟ كذلك البنية العربية والأجساد العربية التي نشأت في الصحراء أو في المدن البسيطة كانت بنية أقرب للصحة، أقرب إلى تحمل الخشونة. طبعاً الإسلام "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً"، والإسلام جاء لأناس لكي يحملوه وينصروه في الآفاق. فالإسلام لا يناسب قوماً مترفين، لا يناسب قوماً درجوا في الرفاهية والبذخ. بل هذه سنة الرسائل جميعاً.

كذلك، "وما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها" أصحاب الترف بشكل عام هم أعداء الأنبياء، قاعدة عامة. وهذه قاعدة سائرة في القرآن الكريم، تمام؟ القوم المترفون هم من أعداء الأنبياء. أنصار الأنبياء وأنصار الرسالات هم الذين لم يصبهم الترف. وحتى بعض علماء الاجتماع يعبرون عن هذا المعنى بألفاظ أخرى، يقولون إن الثورات لا يقوم بها إلا الطبقة الوسطى. لماذا؟ لأن الطبقة العليا المترفة لا تريد أن تغير الوضع الذي هي عليه، والطبقة الكادحة هذه أصلاً ليست لديها القدرة على التفكير. هذا رجل في دوامة يومية لكي يحقق قوت يومه والضروريات من حياته، فهذا لا يفكر أصلاً في تحسين حاله، بل يرى أن أي تغيير في الواقع هو تهديد له. فبشكل عام، المترفون ينظرون أن يكونوا من أتباع الأنبياء، بل هم غالباً هم الذين يقفون أمام الأنبياء.

فالعرب كانت حالتهم الجسمية، وكانت بيئتهم التي نشأوا فيها مما يؤهلهم جسمانياً لكي يحملوا هذه الرسالة. فهذا من أسرار نزول الرسالة، نزول الإسلام على من؟ على العرب. الأمر الأخير، وهو الأمر الأظهر، أن أخلاق العرب كانت هي الأقرب إلى أخلاق الفطرة. وذكرنا في المرة الماضية أنه نستطيع أن نقسم أخلاق العرب إلى ثلاثة أقسام: أخلاق خبيثة رديئة كالتي كانت منتشرة في الجاهلية، في الجاهليات الأخرى، لكن بقدر أقل من الجاهليات الأخرى، مثل أكل الميتة، مثل ظلم النساء، مثل وأد البنات، مثل التعامل بالربا. وأخلاق هي من المبالغات والإفراط في أخلاق أصلها حسن، كما ذكرنا مسألة الفتك والنصرة، هذا فرع عن خلق أصله حسن، وهو النجدة والنخوة، تمام؟

لما نتكلم حتى عن الإسراف الذي كان موجوداً عند العرب، كان فرعاً عن الكرم. والعرب عرفوا بمن في الكرم؟ بحاتم الطائي. حاتم الطائي أخباره مشهورة جداً جداً جداً، ولكن أنت حين تقرأ مثلاً بعض أشعاره تشعر بهذا السمو الذي انطوت عليه هذه النفس، نفس حاتم الطائي. مما يُروى في ذلك قول زوجته له: "إذا ما أصبنا صريمة بعد هجمة تكون عليها كابن أمك أسوداً"، يعني كل ما يبقى عندنا قدر من الأغنام، فكنتَ كالريح والوباء الأسود العاصف الذي يمسح هذه الثروة التي كوناها. فيجيبها فيقول: "ذريني ومالي، إن مالك وافر وكل امرئ جار على ما تعو"، الم تعلمي أني إذا الضيف نابني وعز القرى أقري السديف المسره؟ يعني ألا تعلمي أنه إذا جاءني ضيف في وقت جدب لا أطعمُه إلا من سنام الجمل السمين، الذي هو خير ما في الجمل من طعام؟

وبعدين ثم يقول، وهذا هو يدخلنا إلى معنى آخر، "ساخر من مالي ضلا وبحا أنا فقط الذي لن أفرّط فيه الدرع والسيف، ساخر من مالي لأس الدرع وبحا الفرس وأسود خطيا وضبا مهندا الرمح والسيف، فذلك يكفيني من المال كله". ولكن يقول هذا هو البيت الذي يقول: "ذريني يكن مالي لعرضي وقاية يقي عرضي يقي مالي عرضي". شوفوا، يعني هو يبذل ماله لكي يقي ماذا؟ لكي يحفظ سمعته وكرامته. فكان المال صار بالنسبة لعرضه كالدرع. يقولون لي "أهلكت مالك فاقتصد"، وما كنت لولا ما يقولون سيداً. وما كنت لولا ما يقولون، يعني لولا إهلاك المال هذا ما كنت لأكون سيداً. فالسيا ثمن السيادة هو ماذا؟ هذا البذل وهذا العطاء.

وإن هذا المعنى عبر عنه المتنبي فيما بعد بقوله: "لولا المشقة ساد الناس كلهم، الجود يفقر والإقدام قد أتال". لو أن كل الناس تسود بلا مشقة كان كل الناس، آه، لكن لا يسود فيهم إلا من احتمل الفقر من كثرة جوده وتعرض للمقاتل لفرط شجاعته. فأخلاق العرب، أخلاق العرب كان أصلها يعني أخلاق كان أصلها حسن، ثم زادت للإفراط فيها، لكثرة الإفراط فيها. وكما يقول شاعرهم الآخر: "إني لمن قوم أفنى أوائل قيل الكمات ألا أين المحامون". يقول: "أنا من قوم تفانوا وماتوا وقتلوا، لأنه كلما نادى أحد أين من يحمينا، أين من ينجدنا، هبوا له. إني لمن قوم أفنى أوائل قيلوا الكمات ألا أين المحامون. لو كان في الألف واحد، لو كان في الألف واحد منهم، فدعوا من فارس خالوهم إياه يدعو". لو هو واحد بس وفي ألف حوله، ثم نودي من الفارس ظن أنهم، آه، ينادونه هو، يقصدونه هو. "إني لمن قوم أفنى أوائل قيلوا الكمات ألا أين المحامون. لو كان في الألف منا واحد، فدعوا من فارس خالوهم إياه يدعون". وثم يقول في هذا: "إذا تنحى الكمات أن يصيبهم حد الظبات"، حد السيف وصلناها بأيدينا. إذا الناس خافت من السيف، نحن الذين نوصل السيف إلى أنفسنا. ولا ترانا، وإن جلت مصيبتنا، مع البكاء على من مات.

الحقيقة، مجتمع العرب وما فيه من الأخلاق، كلما توغلت فيه رأيت أن هؤلاء كانوا أقرب الناس وأنسب الناس لنزول الرسالة فيهم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولعل هذا هو السبب في أن العربي إذا عرضت عليه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم دون مؤثرات، كان يقول له: والله ما أراك يا أخا العرب إلا تدعو إلى مكارم الأخلاق.

فالحالة العربية التي ذكرنا فيها أنها أقرب الأخلاق إلى الفطرة، أقرب الأجساد إلى تحمل المشاق، وأخلى العقول من الفلسفات والجدالات الذهنية، وأعز الناس من الخضوع والذلة للملوك، هذه كانت خصائص العرب التي جعلتهم محلاً لنزول الرسالة فيهم. وهنا، من ينظر في هذا المعنى يفكر إذا أراد أن يبدأ بالإصلاح في واقعه أو في زمنه أو في مكانه، هذه الأمور تهديه بمن يبدأ.

واضح، لأن بالذات خلق الذلة هو أبعد الأخلاق عن مناسبته لرسالة الأنبياء ومناسبته للإصلاح. الإمام البشير الإبراهيمي، الشيخ الجزائري الكبير المعروف، كان يقول: إن الجاهل يمكن أن يُعلّم، والغضب يمكن أن يُحلّم، وكل الناس يمكن بالتدريج أن ينتقلوا عن صفاتهم إلا الذليل، فإنه مهما حصل لا يمكن أن يكتسب معاني العزة. الذلة أمر هائل، داء لا دواء له.

وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نموذج هائل في هذا الموضوع، وهو نموذج بني إسرائيل. بنو إسرائيل، يا جماعة الخير، أذلهم فرعون حتى كان يصدر القرار بقتل الأبناء وهم مستسلمون. انظر إلى أي ذلة وصلوا! تخيل الدولة تصدر قراراً بقتل ابنك إذا تبين أنه ذكر، وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وترى ابنك يؤخذ ويذبح أمامك ويلقى إليك، ولم يفكروا في ثورة، ولم يفكروا في اعتراض، ولم يفكروا في تكوين مقاومة.

طيب، هؤلاء القوم، هؤلاء القوم بُعث فيهم نبي من أولي العزم من الرسل، فاستجابوا له. المنطق يقول إنهم يلتفون حوله التفافهم بالحياة بعد الموت، لكنهم قالوا له: "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا". يعني، على الأقل إذا كنتم أُوذيتُم قبل أن آتيكم، فلم يتغير عليكم شيء. طيب، أنتم زعلانين ليه؟ لكن هم قالوا: لا، نحن كنا عايشين وكويسين، وفين أيامك يا حسني، الكلام ده يعني.

"أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا"، قال: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وأهلك الله عدوهم بمعجزة شاهدوها بأعينهم، أهلك الله فرعون أمامهم بمعجزة شاهدوها بأعينهم. ومع ذلك، بمجرد ما ذهب فرعون، مروا على قوم يقفون على أصنام لهم، قالوا: "يا موسى، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة". كان الله في عون سيدنا موسى. موقف رهيب، موقف رهيب، الجماعة من كثرة الذل لم يتصوروا أن يوجد إله غير قاهر لهم، غير ظاهر لهم، يعني يظهر بالتهديد والحضور والقوة، لم يتصوروا هذا.

قالوا: "يا موسى، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة". طيب، غاب عنهم سيدنا موسى، عبدوا العجل، سبحان الله، عبدوا العجل حتى جاءهم سيدنا موسى فنسف العجل أمامهم. ثم قالوا له: "يا موسى، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهراً". طيب، هل كان أحد منهم يجرؤ أن يقول: لن أطبق قانون فرعون حتى أرى فرعون أمام عيني، مثلاً؟ ولذلك لم يعتدل حالهم إلا حين قال الله تبارك وتعالى: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم". تحت التهديد استقاموا.

ولذلك، سيدنا موسى كان قوياً. بمجرد أن غاب عنهم استضعفوا سيدنا هارون وكادوا يقتلونه. قال: "يا ابن أمّ، لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي". وفي سورة أخرى قال: "يا ابن أمّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء". لكن سيدنا موسى لقوته كانوا يهابونه.

طيب، "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم". شوف، نبي من أولي العزم من الرسل، مؤيّد بالمعجزات، يقول لهم: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم". قالوا: "يا موسى، إن فيها قوماً جبارين". الذلّة، خلق الذلّة خلق شنيع. الذلّة حين تخترق النفس خلق شنيع. "إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها. وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".

طيب، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهم: "ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين". قالوا: "يا موسى، إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون". لا تستهينوا بالذلّة إذا أصابت قوماً. شوف، هذا بُعث فيهم كامل رسول، بل من أولي العزم من الرسل، ونجوا أمامهم بمعجزة، نجوا بمعجزة، وكانت عندهم كل أسباب الثورة والمقاومة فلم يثوروا ولم يقاوموا، والآن معهم كل أسباب النصر فلم يجرؤوا على دخول المعركة.

ولذلك قال الله تعالى: "قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". يقول هنا ابن خلدون: وذلك لكي ينشأ في التيه في الصحراء جيل جديد لم يعانِ من ضغط الفراعين في مصر ولا من ضغط العماليق في الشام. هذا الجيل الجديد رغم أنه لم يجد أسباب الثورة، يعني لم يضطهد الاضطهاد الأول ولم يقده رسول كموسى، نعم قادهم نبي الله يوشع بن نون، لكن هو الذي كان على يديه النصر لأنه لم ينطبع بالذل.

فلذلك العرب، بما كان فيهم من هذه العزة، كانوا أنسب الناس لهذه الرسالة ولتحمل الرسالة. طيب، هنا نستطيع أن نعبر مسألة الجاهلية التي كانت فيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ندخل لمولد النبي. ولكن هناك سؤال مهم يجب أن يتوقف معه أيضاً المصلحون. يا جماعة الخير، كما ذكرت، المجتمعات الجاهلية لم تكن تسمي نفسها جاهلية. المجتمعات التي تشيع فيها المظالم لم تكن تسمي نفسها مجتمعات ظالمة. كانوا يسمون أنفسهم التقدم والتنوّر.

فلذلك نحن الآن في عصرنا هذا في جاهلية شبيهة بالجاهلية التي كانت قديماً. أنا أحكي لكم في مقال لطيف كتبه أحد الأصدقاء كان عنوانه: "ماذا خسرنا بتشويه السينما المصرية لكفار قريش". أنت حين تشاهد فيلماً قديماً كان أبو جهل وأبو لهب وجوه مكفهرّة عابسة، حواجب غليظة، أصوات غليظة، فاكلت كأمك. ويعني على العكس لم يكن الناس هكذا. فمن أجل هذا حين ترى الجاهلية أنيقاً ويرتدي ثياباً لامعة ويتحدث بأسلوب لطيف، لا يعبر على ذهنك أن هذا قد يكون أحد رؤوس الظالمين.

الآن، أنت حين تنظر في مجلس الأمن أو في الاتحاد الأوروبي أو في تصريحات وزير الخارجية والمتحدث باسم البيت الأبيض، هل ترى حواجب غليظة؟ كلهم أناس لامعون بُرّاق، ولغتهم لغة فصيحة. فنحن فعلاً خسرنا عندما تم تشويه الجاهليين، لأن هذا صار لا يفهمنا كيف هو الشكل الحقيقي للجاهلية.

الآن نحن في الزمن المعاصر، يا جماعة، الربا الذي كان يتعامل به العرب، الربا الفاحش، أليس في زماننا ربا فاحش؟ نحن جعلنا الربا قانوناً ونظاماً. ما هو أصل الربا؟ أصل الربا أنك تخلق أموالاً غير موجودة، يعني أنا أعطيت عشرة ريالات أو جنيهات وأطلب أن ترجع إلي عشرين أو اثني عشر أو خمسة عشر. هذه الزيادة خلق لمال غير موجود. ماذا يفعل الربا؟ هذا الذي يزيد الغني غنى ويزيد الفقر فقراً، أصبح الآن بنداً ثابتاً في كل البنوك. النظام المالي العالمي الحالي هو نظام قائم على البنوك، ومن قوانين البنوك أنها الجهة الوحيدة التي تخلق المال. تخلق المال، ولذلك فحجم الثروة العالمية هو أضعاف ملايين المرات من حجم الثروة الحقيقية الموجودة في الواقع.

كل البنوك لديها قانون أنها تستطيع أن تعطي أموالاً بحجم 0% من الأموال الحقيقية التي عندها، فالبنك يخلق المال، يخلق المال، وهذا المال يدفعه في النهاية الشعوب المستضعفة. لا يتسع المقام للتفصيل في هذا الأمر، لكن الشعوب، كل الشعوب في الأرض الآن تدفع ثمن رفاهية الشعوب الغربية والأمريكية.

لأن كل هذا، يعني، ما بالك بقوانين موضوعة تجعل في يد أحدهم أموالاً تزيد وتكثر وتجعل في يد الآخر أموالاً تنقص بطبيعتها، لا هذا اشتغل ولا هذا قصر. طيب، قتل الأولاد ووأد البنات، أليس في مجتمعنا الآن قتل أولاد ووأد بنات؟ نعم، لكن تحت عنوان آخر اسمه حق في الإجهاض من حقوق المرأة. المرأة تملك جسدها، صح أو لا، فلأنها تملك جسدها فهي حرة تزني متى أحبت وتتخلص من الجنين متى أحبت.

الأرقام التي تأتي بها الإحصائيات في مسألة أرقام المجهضين الأولاد القتلى، هذه يا جماعة الخير بالملايين، بالملايين وعشرات الملايين وأحياناً بمئات الملايين. لا أريد أن أقول رقماً الآن لأني قرأت أرقاماً عديدة، لكن كلها تشير إلى مذابح بعشرات الملايين تحدث للأجنة في بطون أمهاتهم.

الأحزاب الديمقراطية، يعني أنتم تعرفون أن الغرب بشكل عام الأحزاب التي فيه يمينية ويسار جمهورية وديمقراطية، الأحزاب اليسارية الديمقراطية من مبادئها في حقوق الإنسان حق الإجهاض. فنعم، الآن نحن في جاهلية يحدث فيها قتل الأولاد ووأد للبنات وهم في بطون أمهاتهم تحت عنوان حرية المرأة. وهو الرجل الجاهلي كان يقتل الأولاد، أليس كذلك؟ فكان يقول إنه حر في جسده، وفوق ذلك، البرامج التي وُضعت لإنقاص عدد الناس عبر العالم، البرامج التي وُضعت أدت إلى مذابح بعشرات ومئات الملايين لكثير من الأطفال، يعني برامج التعقيم وبرامج إنقاص عدد السكان والتي تخرج في أثواب وبنود مغلّفة بلغة حضارية، مثل مؤتمر المرأة والسكان وينبغي العمل على تقليل عدد السكان وإنقاص ما يُسمى تحديد النسل وتنظيم الأسرة.

نحن أيضاً عندنا حضارة بديعة في تغليف المعاني، ولذلك مثلاً عندما يُرفع الأسعار يقولون لك "تحريك الأسعار". وعندما يحبون تهجير أناس من بلدهم يقولون "إنشاء ممرات آمنة". هكذا يعبرون بعقل وراء المعاني. فتنظيم الحفاظ على الصحة الإنجابية، الحفاظ على الصحة الإنجابية، يعني الاكتفاء بولد أو اثنين أو ثلاثة.

هناك فيلم وثائقي خطير جداً جداً اسمه "إنقاص عدد النساء في آسيا"، كلما وُضع على اليوتيوب حُذف، لكن ابحثوا عنه لأنه يتكلم عن التجارب التي أُجريت في الصين وفي الهند لإنقاص عدد الناس، وكيف كانوا يقومون بعمليات تعقيم، تعقيم بمعنى جعل المرأة عقيمة، وكيف كان يحدث. وطبعاً دفعت الشعوب في هذا أموالاً هائلة وكانت لها ارتدادات اجتماعية في غاية السوء. لكن القصد أنه حتى، حتى يعني لا تستصغري، كان موجوداً في الجاهلية مثلما هو موجود الآن، بل موجود الآن بشكل أشد.

وأد البنات موجود الآن بشكل أشد. الفواحش المنتشرة، نحن نتكلم عن أربعة أنواع من النكاح وعن صاحبات الرايات الحمر. الآن، الآن في كل موبايل يعني نهر إباحية. الآن الإباحية عند أطراف الأصابع، والتطبيقات التي تقرب الزنا والتطبيقات التي تقرب فعل قوم لوط، وكل هذا موجود. وطبعاً هذه أحد التجارات العالمية، صناعة الإباحية ودور البغاء وبيوت الدعارة والملاهي الليلية. الآن صار حتى زجاجة الماء إذا أرادت أن تُعلن عن نفسها لابد أن تشربها امرأة، صحيح؟ فكل شيء الآن، الآن كل امرأة تقريباً هي موضع إثارة شهوة سواء في الشارع أو في التلفزيون أو في الإعلانات. فحتى كثرة الفواحش موجودة في عصرنا هذا كما كانت موجودة في الجاهلية.

المظالم، يأكل القوي فينا الضعيف. طبعاً نحن المسلمين لا نحتاج إلى التدليل على هذا، خصوصاً في هذا الزمن الذي نحن فيه. القصد، يا جماعة الخير، المجتمع الجاهلي كما تقرؤونه في الكتب ليس مجتمعاً أسطورياً خرافياً ولا أن الذين كانوا فيه كانوا أغبياء ومتوحشين ومثيرين للسخرية. لا، المجتمع الذي نحن نحيا فيه الآن، والذي يسمي نفسه عصر العلم وعصر العقل وعصر حقوق الإنسان وعصر حقوق المرأة وعصر حقوق الطفل، كل هذا إنما هو غلاف لجهل معاصر قائم موجود، يحتاج إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، مثلما أخرجهم نبيهم صلى الله عليه وسلم من الظلمات إلى النور.

هذا أمر مهم جداً، مهم جداً أن تفهم أن الواقع الذي نحن فيه الآن لا يختلف عن الجاهلية التي كان الناس فيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم. طيب، إذا اقترب مولد النبي صلى الله عليه وسلم، العنصر الأخير من عناصر الجاهلية هي الأديان. أين كانت الأديان؟ إلى ما وصلت إليه اليهودية والنصرانية. الحقيقة، هذا يفتح معنا قصة جميلة جداً وهي قصة سيدنا سلمان الفارسي.

سيدنا سلمان الفارسي له قصة متميزة في وصف حال الجاهلية ووصف حال الإسلام، وهي قصة مثيرة لأنها تكشف لنا عن أمر آخر، وهو أن هناك من الناس من كان ينتظر مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمن. سيدنا سلمان الفارسي، كما يروي عن نفسه الحديث، سمعه منه سيدنا عبد الله بن عباس.

سيدنا سلمان كان أحب أبناء أبيه إليه، فأبوه من كثرة حبه له كان، يعني، كان يدللّه، فكان يبقيه في البيت. فذات يوم انشغل أبوه بأمر من الأمور، فأرسل ابنه لكي يتابع له الضيعة أو الزراعة التي يزرعونها. فسيدنا سلمان الفارسي خرج، ولأول مرة ينتبه إلى كنيسة في قريتهم الفارسية. طبعاً، سيدنا سلمان كان أبوه عمدة القرية أو رئيس القرية بلفظه، دهقان القرية. فرأى كنيسة، فجذبه إليها ما سمعه من صلوات أهل هذه الكنيسة، فدخل واستمع إليهم، فبقي معهم إلى الليل. أعجبه هذا الدين.

طبعاً، قلنا سيدنا سلمان نشأ في بيت أبيه في حجر أبيه في رعاية أبيه، وطبعاً أبوه عوده على الديانة الفارسية لدرجة أنه كان هو الذي يتابع النار لئلا تنطفئ، المجوس كانوا يعبدون النار. فسيدنا سلمان كان في جاهليته الذي يتابع النار. فأول ما ذهب، كان أبوه يعني أخذ القلق عليه. قال: أي بني، أين كنت؟ قال: أبي، إني رأيت كنيسة فيها كذا وكذا. قال: يا بني، هذا الدين لا خير فيه، ولا خير إلا في دين أبيك وأجدادك. قال: لا والله، بل هذا الدين خير من الدين الذي نحن عليه. فقيده أبوه.

طبعاً، هنا تجد نموذجاً من نماذج العزم والإصرار. سيدنا سلمان الفارسي أرسل إلى النصارى الموجودين في هذه الكنيسة، قال لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: في الشام. أصل الدين في الشام، وهو الآن في فارس. قال: فإذا جاء تجار من الشام فأخبروني. جاء تجار من الشام، أخبروه. قال: حين تحين عودتكم إلى الشام، أخبروني. فلما حانت عودتهم إلى الشام، تحايل وفك قيوده وهرب معهم إلى الشام وذهب هناك إلى الأسقف، أسقف الذي هو رئيس الكنيسة.

طبعاً، انظر إلى رجل تجرد للبحث عن الحق. طيب، أنت من؟ ماذا تريد؟ قال: أنا رجل أحببت هذا الدين، فأريد أن أبقى معك وأخدمك وأتعلم منك. قال: لا بأس، ادخل. فخدم سبع سنين. ظل في، انظر، هو انتقل من ابن رئيس القرية إلى خادم عند قوم لا يعرفهم ولا يعرف لغتهم، ولكن فقط رأى أن دينهم خير من الدين الذي كان عليه.

فوجد هذا الأسقف رجل سوء، يأمرهم بالزكاة والصدقة، فإذا جمعوا له الزكاة والصدقات كنزها لنفسه، حتى كوّن سبع قلال من ذهب وفضة. وجاء الوقت الذي بقي معنا خمس دقائق. نعم، تمام، 10 دقائق، هذه لن تكفي لحديث سيدنا سلمان. طيب، نكمل منها ما استطعنا، لكن انتبهوا، يا جماعة الخير، الأصل أو الطبيعي أو السائد عند الرجل ضعيف العزم وضعيف الرأي، أنه إذا وجد متديناً على هذه الشاكلة، ماذا يفعل؟ والله ديننا ودين آبائنا خير منهم. وأنت تعرف، هناك كثير من الناس ينتظر حدوث شيء ليقول: يا أخي، كرهتونا في الدين وكرهتونا في المتدينين.

سيدنا سلمان بقي مع هذا الرجل على هذه الصفة حتى مات. فلما جاؤوا ليدفنوه، قالوا له: وما علمك بهذا؟ قال: أدلكم على مكان الذهب والورق (الفضة). فدلهم عليها فاستخرجوها، فصلبوه ورجموه، لم يدفنوه. ثم اختاروا لهم آخر. هذا الآخر يقول سلمان: فما أعرف رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه خير منه. يعني، سيدنا سلمان يقول إن هذا الرجل أفضل رجل غير مسلم رأيته، أزهد الناس في الدنيا وأقبل على شأن الآخرة، فكان بالنسبة له النموذج الكامل لهذا الدين. فظل معه حتى حانت الوفاة. فقال يا أيها الرجل، يعني تعلم قصتي وتعلم ما كان لي منك، فبمن توصي؟ فقال: يا بني، لا أعلم أحداً على مثل ما أنا عليه الآن، فقد بُدل الناس وغيّروا، إلا رجلاً بالموصل، هذا الذي على مثل ما نحن عليه الآن.

طبعاً، انتبهوا، أنا أحكي لكم هذه القصة لأنها تكشف لنا كيف كانت حال الأديان عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم. الأديان ضُربها الفساد وضربها الانحلال، حتى رؤوسها كانوا قد ذهبوا كصاحب هذا الذي كان يجمع الذهب والفضة، والبقية فيهم كانوا قلة منعزلين لا يستطيعون تغيير شيء. فهو حتى لما سأله عن رجل صالح، قال: لا أعرف إلا رجلاً بالموصل. فسافر سلمان من الشام إلى الموصل. ذهب عند صاحبه هذا، قال: فكان على مثل ما كان عليه صاحبه، حتى إذا حانت وفاته سأله نفس السؤال: إنه قد حل بك ما ترى، وأنك لتعلم ما بي، وبمن توصي إليه؟ قال: يا بني، ما أعرف أحداً على مثل ما كنت عليه، إلا رجلاً بعمورية، الآن هي قريبة من محافظة أفيون التركية.

فأنت انظر، رحلة من فارس إلى الشام، من الشام إلى الموصل، من الموصل إلى عمورية، يعني عمورية التي هي أفيون التي هي طبعاً أدنى جنوب كوتاهيا لمن يعرفها منكم أو لمن في ذهنه الخريطة. فكان معه على مثل ما كان عليه صاحباه، حتى إذا حضرت الوفاة سأله سيدنا سلمان نفس السؤال، فقال له: ما أعلم أحداً بقي على ما كنا عليه، قد خلصوا الصالحين، إلا أنه قد أظلك زمان نبي يخرج من أرض العرب، مهاجر إلى بلد بين حرتين ذات نخل. فإذا أدركته فالزمه، وله ثلاث علامات: لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة.

أنا متصور هذا المشهد، إذا صنع في مسلسل أو فيلم فسيكون في غاية التشويق. الآن، هذا الرجل الصالح من النصارى عنده علم بماذا، يا جماعة الخير؟ عنده علم بأن الزمان اقترب زمان نبي، وعنده علم بالمكان، يخرج في أرض العرب، وعنده علم بالسيرة، ويهاجر إلى بلد، وعنده علم بأوصاف بلد الهجرة بين حرتين ذات نخل.

إن شاء الله في المرة القادمة سنشهد بعض العجائب مما جاء في أوصاف نبينا صلى الله عليه وسلم في كتب اليهود والنصارى. عجائب تجعلكم توقنون بقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾، فبعثه النبي، وأن النبي حق، أمر لا يتطرق إليه شك. فلذلك النبي، عندما سمع هذه القصة من سلمان، فيما بعد، أحب أن يحكيها سلمان للصحابة لأنه صلى الله عليه وسلم أحب أن يعرف الناس أن خبره مذكور عند اليهود والنصارى.

طيب، أظلّك زمان نبي يخرج في أرض العرب، يكون مهاجره إلى بلد ذات حر، بين حرتين ذات نخل، فإذا أدركته فالزمه. فسيدنا سلمان الفارسي في هذه الفترة كان قد جمع ثروة، وعلى عادة الرجل ذو العزم الشديد والعزم الحديد، ذهب أيضاً، يعني أدرك قافلة من تجار العرب من قبيلة كلب، فقال لهم: تحملوني إلى أرض العرب مقابل الغنمات هذه. فقبلوا، أخذوا الغنمات قيدوه وباعوه عبداً.

والسير في طريق الحق ليس سيراً في طريق مفروش بالورود. أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء. فسيدنا سلمان، انظر، يعني ترك ما كان فيه من الرفاهية والرئاسة وذهب غريباً وتعرض لأسقف يعني سيء الخلق وسيء الدين، والآن يُباع بيع عبد. فبيع عبداً في سوق من أسواق العرب، المهم استقر أمره عند رجل من بني قريظة. أين؟ في المدينة. قال: فما هي إلا أن رأيتها حتى عرفتها. هو شاف الوصف، طبعاً المدينة بين حرتين، يعني بين جبلين أو سلسلتي جبال بسيطة، وذات نخل، المدينة طبعاً، وبيع عبداً.

قال: فما هو مرة يعني كان على رأس نخلة حتى جاء يهودي ابن عم اليهودي الذي هو عنده عبد عنده. فهذا الرجل ابن عمه يصف، قال يعني: إن بني قيلة، اللي هم الأنصار، يعني قيلة هذه اسم جدة من جداتهم. لما كان اليهود يحبون أن يهينوا الأنصار، يعني يقولوا إيه أو فلانة قيلة، إنهم اجتمعوا في قباء على رجل يزعمون أنه نبي. طبعاً، سيدنا سلمان قال: فأخذت مني العروات، الصدمة، الهزة، الرجفة. قال: فما شعرت بنفسي إلا وأنا تحت النخلة من فوق نزلت. قال: ما قلت؟ قال: فلكمني سيدي لكمة أوجعتني، وقال: وما شأنك بهذا؟ عد إلى ما كنت فيه. لكن سيدنا سلمان التقط هذا الخبر، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بضع تمرات في قباء قبل أن يدخل المدينة.

وقال له: إني قد علمت أنك رجل صالح، وأنك غريب ومعك أصحاب من الغرباء، وهذا تمر كنت قد أعددته للصدقة، فأنتم أولى الناس به. قال: فأخذ النبي التمر وقال لأصحابه: كلوا، وأمسك. فقال سلمان: هذه واحدة. ثم في مرة أخرى جاء ببضع تمرات.

أيضاً، وقال: قد رأيت أنك لم تأكل من التمر، وهذا تمر هدية من تمر الصدقة، وهذا هدية فجئت به إليك. فقال النبي لصحابته: كلوا، وأكل معهم. فقال: وهذه الثانية. ثم في موقف آخر، سيدنا سلمان الآن يبحث عن ماذا؟ آه، عن خاتم النبوة. قال: فكنت أدور حوله في موقف آخر مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فكنت أدور حوله، فعرف ما بي صلى الله عليه وسلم، فألقى عن كتفيه الرداء، فإذا بين كتفيه خاتم النبوة صلى الله عليه وسلم. قال: فأقبلت إليه أقبله وأعانقه، فقلت: وهذه الثالثة.

خاتم النبوة، يا أحباب، هو يعني نتوء قليل، كأنها قطعة جلد، فيها حمراء، فيها بعض الشعرات كما وصفها الصحابة، كانت بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث يخبرنا كيف كانت الأديان، كيف انتهت الأديان، كيف كان بعض الناس يرتقب مبعث النبي وميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً. في المرة القادمة نخبركم عن الأخبار المشوقة والغريبة عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الديانات السابقة، وكيف كانوا يعرفون زمانه ومكانه، بل بعضهم كان يعرف اسم أبيه وأمه. المرة القادمة، إن شاء الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.