30 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

السيرة النبوية | 11. كيف كان القرآن يقع في أسماع الكفار؟ ولماذا لا نشعر بجماله الآن؟

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.

اللهم اجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، ولا تجعل لأحد سواك فيه شيئاً، يا رب العالمين. رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي.

مرحباً بكم أيها الإخوة الأحباب. نسأل الله تبارك وتعالى كما جمعنا على طاعته أن يجمعنا في جنته ودار كرامته ومستقر رحمته.

هذا المجلس الحادي عشر من مجالس السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وكنا قد تكلمنا في المرة الماضية عن قريطة لتسهيل وتيسير حفظ السيرة النبوية.

هل أحدٌ يتذكر شيئًا؟ نعم، قلنا إن بداية السيرة النبوية من بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى مرحلتين: المرحلة المكية والمرحلة المدنية. المرحلة المكية هي مرحلة الدعوة، والمرحلة المدنية هي مرحلة الدولة.

المرحلة المكية استمرت ثلاث عشرة سنة، والمرحلة المدنية عشر سنوات. إذا أردنا أن نقسم المرحلة المكية، فسنقول إنه في أول ثلاث سنوات نسميها الدعوة الخاصة، يسميها بعض الناس الدعوة السرية، والأوفق أن يقال الدعوة الخاصة.

ومن ثلاث إلى ستة، قلنا إنها مرحلة استضعاف ظاهر. وهذه عند الستة تبدأ مرحلة جديدة، لأن المسلمين رزقوا برجلين كبيرين وهما حمزة وعمر رضي الله عنهما، فكانت نقلة للمسلمين وقوة لهم.

من سبعة إلى عشرة، كانت هذه السنوات حصاراً، ومن عشرة إلى ثلاث عشرة هي مرحلة البحث عن أرض بديلة لتكون قاعدة الدولة الإسلامية وشوكة وأنصار جدد بعد أن بدأ وظهر أن أهل مكة لم يقبلوا هذه الدعوة.

أما المرحلة المدنية، فقد ذكرنا أن أول سنتين تنتهي بغزوة بدر، نسميهما التأسيس الداخلي للدولة. ومن سنتين إلى خمس سنوات هي مرحلة تكوين القوة الإقليمية للدولة الإسلامية، لأن معركة بدر كانت معركة فارقة نقلت المسلمين من كونهم مجرد لاجئين أو جماعة هاربة أو عصابة مزعومة إلى كونها قوة إقليمية تستطيع أن تحافظ على وجودها.

وفي سنة خمس، صار من المستحيل أن تزول الدولة الإسلامية بعد أن تكالب عليها حلف الأحزاب، وهذا يشبه في اصطلاحنا المعاصر التحالف الدولي. بعد أن تكالب عليها تحالف الأحزاب ولم يستطع أن يزيل الدولة الإسلامية، ولذلك انتهت بقوله صلى الله عليه وسلم: "الآن نغزوهم ولا يغزونا".

في سنة ست، حصلت الدولة الإسلامية على ما يسمى في اصطلاحنا المعاصر بالاعتراف الدولي من خلال صلح الحديبية، يعني صارت دولة معترف بها يمكن أن تدخل في محالفات ومعاقدات.

وعند سنة ثمانية، بدأ فتح مكة ومن بعدها التوسع العالمي. توقفنا في المرة الماضية عند لحظة نزول الوحي، لأن لحظة نزول الوحي هذه فيها الكثير من المعاني التي يجب أن نتأملها جيداً.

وقد ذكرت وأكرر أنه في هذه السلسلة نحن نستعرض السيرة النبوية ليس استعراض أحداث، لأنه استعراض الأحداث هذا في المسلمين من هو خير وأفضل مني ألف مرة في استعراض الأحداث، وإنما نحن نستعرض السيرة النبوية بالقدر الذي نفهم به معاً كيف يمكن أن نتحرك إلى الإصلاح.

فعند لحظة بدء الوحي، وقفنا عند كلام ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا لماذا يرسل الله رسولا ولم يكتفِ بإنزال كتاب، ولماذا يرسل الله رسولا ولم يرسل أمة أو جماعة، وذكرنا مسألة القائد وأهمية القائد وما يثيره القائد في الأمة المهزومة المغلوبة من الطاقات.

ونستكمل إن شاء الله اليوم التأمل في لحظة نزول الوحي وندخل في دعوة النبي، التي هي سنوات الدعوة الخاصة.

طيب، بداية من الأمور التي قليل من يتوقف عندها حين يدرس السيرة النبوية هي مسألة القرآن. أنتم النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي سمعه من القرآن من جبريل في لحظة بدء الوحي؟ أربع أو خمس آيات: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".

تأملوا يا أحباب، لو لم تكن هذه العبارات عبارات في غاية القوة وفي غاية الفصاحة وفي غاية البلاغة وفي غاية العقلانية، لكان من الطبيعي أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل تهيأ له ما يتهيأ للبشر.

لأن العرب كانوا يعرفون أن من الناس من يكلمون الجن، ومن تأتيهم الهلاوس، وفيهم من كان ينطق بالحكمة. نحن ذكرنا أن العرب كانوا قوماً فصحاء بلغاء. وفي شعر الجاهلية كثير من شعر الحكمة.

ويحكى عن النابغة الذبياني، أحد كبار شعراء العصر الجاهلي، أنه لم ينطق بالشعر إلا بعد الأربعين، يُحكى عنه هذا. يعني إذاً إمكانية أن الإنسان تتفجر فيه موهبة موجودة هي قليلة طبعاً ونادرة بعد الأربعين أن تظهر موهبة مختلفة، لكن الإمكانية نفسها موجودة.

فما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم جعل خديجة، ثم جعل ورقة بن نوفل يتعاملون مع هذا الموقف تعاملاً جاداً؟ وأن هذا الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم حدث ينبغي التوقف عنده.

نحن سنرى فيما بعد أن قريش وضعت هذا الاحتمال لما جاءه عرض الوليد بن عتبة فيما بعد، قال له إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد النساء زوجناك، وإن كان الذي يأتيك هذا من الجن، التمستنا لك الأطباء.

يبقى احتمال أن يكون هذا نوع من التهيؤات، نوع من الاتصال بالجن، احتمال كان واردًا، وطرحه الكفار حين لم يقبلوا هذه الدعوة. لكن لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خديجة رضي الله عنها، ولا ورقة بن نوفل، ولا أول من أسلموا كما سنرى فيما بعد، رأوا أن هذه الاحتمالات يمكن أن تكون مقبولة أو معقولة. لماذا؟

لأنهم سمعوا قولا بليغا تخضع له رقاب البلغاء والفصحاء. ولذلك حتى المستشرقين، حتى المستشرقين حين طرحت فكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، تعرفون حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه الوحي، فهو ذكر أنه يأتيه على حالات، بعضها مثل صلصلة الجرس، يقول وهذا أشده علي، وبعضها يبعث الله له الملك على هيئة رجل فيكلمه.

فكان النبي إذا جاءه الوحي على هذه الهيئة، والسيدة عائشة تذكر هذه الحالة، فتقول: كان يتفصد بالعرق في اليوم الشاتي مما يجد من الجهد.

الخلاصة أن هذه اللحظات التي كان يغيب فيها النبي عن الوعي وهو يتلقى الوحي، ما تزال مطروحة حتى في كتب المستشرقين المعاصرين وفي كتب أعداء الإسلام، أنها قد تكون حالة مرضية، وحالة من حالات الصرع.

فالرد الأبرز الذي يواجه به هذه التهمة أنه المشروع حين يفيق من الصرع، لا يأتي بالحكمة. صحيح، يعني النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يفيق من تلقي الوحي، كان ينطق بقول هو الذروة في الفصاحة والبلاغة والحكمة.

القصد هنا أننا في أيامنا هذه، ونحن حين نقرأ السيرة، لا نتخيل أن هذا القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذهن العربي، وفي أذنه، وفي ضميره شيئاً مزلزلاً. كان شيئاً هائلاً هادراً.

ولذلك حقيقة نحن لا نشعر بجمال القرآن الكريم. لا نشعر به لابتعادنا عن اللسان العربي، لكثرة العجمة في لساننا. فلذلك نحن إذا حاولنا أن نستقبل القرآن الكريم هذا الاستقبال، نحاول أن نتصور كيف كان يقع هذا القرآن في ذهن العرب وفي ضميرهم، سنرى أنفسنا أمام معجزة هائلة ومحيرة ومربكة.

طبعاً حتى في مسألة البلاغة، القرآن الكريم احتوى على تشبيهات عجيبة جداً، كقول الله تعالى مثلاً: "وَلَمَّا سَكَّتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبَ". كيف تهيئ لك هذه الصورة، وكأن الغضب كان رجلاً يمسك به ويهيمن على سيدنا موسى؟ طبعاً هو رجع وجد قومه يعبدون العجل.

وفي غضبته ألقى الألواح التي فيها التوراة، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه. وبعد كده تجد الآية تصف لك موسى: "وَلَمَّا سَكَّتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبَ". فالتشبيه هنا تشبيه مبتكر جديد، تصوير عجيب للحالة.

طيب، مثلاً لقول الله تعالى: "فَوَجَدَ فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ". أنت تخيل في نفسك صورة الجدار الذي يريد أن ينقض، يعني الجدار يريد أن ينقض. انظر كيف صور لك القرآن الكريم شكل الجدار.

يعني لو أنك قلت: على وشك السقوط، يوشك أن ينهار، يوشك أن يندك، يكاد يزول. إنما الجدار يريد أن ينقض. فهذه الصور كانت في ذهن العربي فصاحة فصاحة مسكتة، خصوصاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول الشعر.

تمام؟ مثلاً حين يوصي الله تبارك وتعالى الأبناء بالآباء، فيقول لهم: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة". جناح الذل من الرحمة، أنت أصلاً تتصور الآية وهي تصف الولد وهو...

يعني سيد قطب رحمه الله كان يقول: "أني أخاف عند بعض السور". يقول في مقدمة تفسيره لسورة الرعد: "أني أخاف أن أمس هذا القرآن الكريم ببياني".

بعض السور يقول يتوقف أمامها، أخشى أن أمسها ببياني أو أن أصيبها بأسلوبي البشري. هي الصورة هكذا أتهيب أن أحاول وصفها، لكن لأنه نحن في جيل ابتعد عن دلالة القرآن وعن مفهوم القرآن، فبالتالي صار مطلوباً وصار لازماً أن نحاول تقريب القرآن لهذا الجيل.

ولذلك هو يفسر لماذا كان هذا القرآن، يعني هو يقول: "أتصور ذلك الجيل الذي كان يخاطبهم القرآن خطاباً مباشراً فيقع في حسهم وضميرهم ويستقبلوه كما يستقبلون الخطاب العادي".

يقول فإن هذا يفسر هذه الخوارق والمعجزات التي صنعوها. تمام؟ فأنا مثلاً لما دلوقتي أريد أن أقول: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"، مش عارف أجيب الآية اللفظ الذي يوحي إليك كيف تضع الآية "جناح الذل من الرحمة".

سيدنا زكريا مثلاً، حين يدعو الله تبارك وتعالى، قال: "ربي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً". عبارة "اشتعل الرأس شيباً"، عبارة يعني تتصور معها رأس سيدنا زكريا وهي... وكأنه اندفق فيها اللهب.

"واشتعل الرأس شيباً". في قوله تعالى مثلاً، وهو يصف يوم القيامة قال الله تعالى: "ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عَتِيًّا". الآية تصف موقف القيامة. والله تبارك وتعالى سيبدأ بعذاب الأكثر عتواً.

لكن شف، الأكثر عتواً هذا، وصفه الله تبارك وتعالى وكأنه متكور وملتصق ومختبئ في قومه، كان... وهو أشدهم عتواً. فالله تبارك وتعالى يقول: "ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عَتِيًّا".

المشهد يصف لك هذا الكبير أو هذا العاتي، هذا الظالم، كيف بلغ به الذل أن يختبئ وينكمش ويتكور حتى تأتيه نزعة الله.

يعني تعبير رهيب ويثير في النفس الرهبة والهيبة، أنه هذا العاتي المتكبر صار على هذه الصورة. وهذا مطرد مطرد في كلام الله تبارك وتعالى، مما يتزاحم الآن، يعني كقوله تعالى مثلاً، من التسويات البديعة: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا".

الحمار وهو شايل كتب، كمثل الحمار يحمل أسفارا. الحمار ينتفع بالكتب التي يحملها. بعض العلماء والمفسرين وقفوا عند هذا التشبيه، يقولون: "أراد الله التشبيه بعيد الانتفاع بهذا التشبيه المركب بأنه الحمار، حتى لو لم يكن يحمل الأسفار، الحمار لو نشرت أمامه الأسفار".

يعني لو فتحت أمامه الكتب، هل ينتفع بما فيها؟ فهي أبعد من أن ينتفع بما فيها حتى لو أنها نشرت أمامه، فتحت أمامه، فكيف وهي على ظهره.

ومن ذلك أخذ الشاعر تعبيره المشهور الذي صار يكتب في الكتب ومن العجائب والعجائب جمة: "قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يعني كان الإبل في الصحراء، كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول".

تمام؟ فالقرآن الكريم حافل بهذه التشبيهات، حتى تشبيهات مثلاً الوصف. الله تبارك وتعالى، يعني حاول أن ترى كيف وصف الله تبارك وتعالى طلوع الصبح وكيف وصف دخول الليل، فمن قوله تعالى: "وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ".

وفي قول الله تعالى: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ". أنت واخد بالك من هذا الدخول الهادئ، اللطيف، والصبح إذا تنفس، يعني إيه؟ مدهش مدهش. الوقوف أمام الآيات والشعور بها.

وهذا كلام يكلم به أرباب الفصاحة والبيان، ولاجل هذا العرب لم يحاولوا أن يقلدوا القرآن الكريم، قرآن مسكت، بل تحداهم الله تبارك وتعالى بهذا. "فَأْتُوا بِمِثْلِهِ" "فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِّن مِّثْلِهِ" "فَأْتُوا بِسُورَةٍ".

وعجزوا. طبعاً نحن ربما نكون ابتعدنا عن البلاغة وعن البيان، ولا يعني لا نشعر بهذا السموق العالي، لكن حين ترى، يعني خليني أقول لك إيه؟ إذا رأيت مناظرة بين اثنين، من المتميزين في أي فن، في التلاوة، في الغناء، في لعب الكرة، وواحد بيقول للتاني: "أنا أتحداك تعمل اللي أنا هعمله".

حتى لو أنت مش فاهم ما هو الموضوع، لكن الرجل صاحب التحدي يصدر عن قوة وتمكن، وتجد الآخر ساكت، فهذا يعني هذا هو... الذروة في الغلبة.

ولذلك كثر من أنباء المشركين أن تراهم يقبلون على سماع القرآن الكريم حتى وهم في حال كفرهم. وهذا نأتي له إن شاء الله فيما بعد، لكن من القصص المدهشة والتي يظهر فيها قوة الغلبة للقرآن الكريم ما كان في سورة النجم.

وهذه الآيات يا أحباب، إذا قرأتموها، يعني إذا قرأها الإنسان في نفسه ووقف معها وتأمل، فإنه سيجد نفسه خاضعاً تلقائياً لهذه الآيات. قال تعالى: "أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى". واستشعر هذه الطرقات.

"فلله الآخرة والأولى". وقوله تعالى: "أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى". "وَأَن لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى". "وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى". "ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأُوفَى". "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى".

"وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى". "وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا". "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تَبَنَّا".

"وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى". "وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى". "وَأَنَّهُ رَبُّ الشِّعْرَى". "وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى". "وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى". "وَقَوْمَ نُوحٍ مِن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ قَوْمٍ".

"أَهْلَكَ فَقَشَاهَا مَا غَشَى". "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى". "بِأَيِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَشُكُّ". هذا نذير من النذر الأولى.

"أَزِفَتِ الْآزِفَةُ". يعني اقتربت القريبة، الذي هو يوم القيامة ليس لها من دون الله كاشفة. أفمن هذا الحديث تعجبون؟ هذا هو الأمر الذي تعجبون منه وتضحكون، ولا تبكون وأنتم سامدون غافلون له.

"فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا". فلم يملك القوم أن سجدوا. آيات كانها طرقات، كانها قذائف، كانها قنابل، وتأخذ النفس وترتفع بها وتهبط بها وتنقلك من الدنيا إلى الآخرة ومن الأرض إلى السماء ومن الماضي إلى المستقبل.

أهلك عادًا الأولى، وثمود فما أبقى! "أَزِفَتِ الْآزِفَةُ". فالقرآن يغمر قارئه بمثل هذه العبارات، لا يحري الإنسان معها شيئاً. طيب، فلهذا أهل مكة كانوا مع القرآن الكريم في حيرة. الوليد بن عتبة كان أخبر قريش بالشعر، وأخبرهم أمور الكهان والسجع.

لما دخل عليهم الموسم والناس ستأتي إلى مكة، ولدينا، والعرب إذا سمعوا هذا القرآن خضعوا له. فاجتمعت قريش لكي تنظر كيف نصري في العرب عن هذا القرآن. قولوا فيه قولا واحدا لئلا تختلفوا.

فقاعدين في اجتماع، يقول: نقول شعر. تقول له: لقد عرفنا الشعر، أزجه ورجوزه وقريضه ومبسوطه، ليس هذا بالشعر، هذا الكلام ليس بالشعر. طه حسين كانت له كلمة جميلة على ما فيه، كان يقول: "القرآن الكريم كان يقول: اللغة العربية شعر ونثر وقرآن".

عادة اللغة، يعني أهل اللغة يقسمون اللغة العربية إلى إيه؟ شعر ونثر. الشعر: الكلام المنظوم، والنثر: هو الذي لم يكن شعراً. طه حسين كان يقول: "لا، هو الشعر قسم والنثر قسم، والقرآن قسمه لوحده"، لغة عالية.

طيب، وبعدين بعد ما اختلفوا مما سنأتي له إن شاء الله، لكن المشهد هنا أن هؤلاء البلغاء، لما أرادوا أن يصفوا القرآن الكريم، فالوليد ابن عتبة قال لهم: "إن أقرب الاقوال فيه أن تقولوا إنه ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق به بين الرجل وزوجه، وبين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه"، أقرب الاقوال إيه؟ سحر.

تمام؟ طيب، عتبة بن ربيعة لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والدنيا على وشك اشتباك، ويعرض عليه العرض الهائل الذي عرضه، الذي هو إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن سيدنا النبي عمل إيه؟ لم يتلو عليه إلا آيات من القرآن فقط.

رجع الوليد، رجع عتبة، قالوا: "وقد والله رجع إليكم أبو الوليد بوجه غير الذي ذهب به". طيب، رجع يقول إيه؟ بيقول: "يا قوم، اسمعوا قولي، دعوا هذا الرجل وما هو فيه، فإن يظهر على العرب، فعزوه عزكم، وملكه ملككم، وكنتم أسعد الناس به، وإن تظهر عليه العرب، فقد كفيتموه بغيركم".

يعني بلاش، لو هنقولها باللهجة العامية، بلاش ندخل المعركة دي. المعركة دي خسرانة، سيبوا الراجل ده يعمل اللي هو عايزه، وهو في كل الأحوال سيقاتل العرب، والعرب سيقاتلوه، لكن خلينا احنا بعيد عن هذا الموضوع.

"فوالله ليكونن لقوله، ليكونن له شأن عظيم، إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه". هذه الآيات، أنت إذا قرأها من سورة فصلت، تستغرب كيف صنعت هذه الآيات في نفس عتبة وفي ضمير عتبة وفي عقل عتبة.

تمام؟ على كل حال، يعني ما يحسن أن أطيل الآن في مسألة البلاغة، ولكن كان الشيخ محمود شاكر رحمه الله، الشيخ محمود شاكر، شيخ العربية، أبو فهر، شيخي المشهور، شيخ مشايخنا، أبو فهر، كانت لديه نظرية يقول فيها إنه نحن لن نستطيع أن نفهم القرآن ولا أن نشعر بمعجزة القرآن إلا إذا عرفنا وفهمنا وفقهنا الشعر الجاهلي.

لأنه هذا هو الذي كون ذوق العرب وعقلهم وضميرهم، فإذا فهمنا الشعر وتشبعنا منه، ساعة إذ سنعرف أن القرآن الكريم كلام من عند الله، ولا احتمال آخر. وكان يرى أن ينشأ الولد لا على القرآن الكريم بل على الشعر الجاهلي.

يقول إن الولد إذا ربي على الشعر الجاهلي وفهمه، سيعرف من القاء نفسه، إذا سمع القرآن أنه قول الله. رأيت هذا الكلام عند غيره من العلماء الأقدمين، لكن هو من آثار هذا القول.

طبعاً، والآن لا أدخل في الفكرة دي، صحيحة ولا مش صحيحة، لكن أنا أشهد من نفسي بأنه الأيام التي أكون منشغلاً فيها بقراءة الأدب والشعر، أشعر أن للقرآن طعماً آخر. هذه تجربة شخصية، نعم. كلما اقتربت من الأدب ومن الشعر، كلما شعرت أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون إلا كلام الله، لا يمكن أن يكون كلام بشر.

طبعاً بعض مشايخنا أيضاً ممن تخصص في الأدب والبلاغة، يعني سمعت بعضهم يقول إنه أنت إذا قرأت الشعر، فكل شاعر له بصمة وله منطقة يتفوق فيها، يعني مثلاً بعض الشعراء يتفوق في الهجاء، بعضهم يتفوق في المديح، بعضهم يتفوق في الفخر، بعضهم يتفوق في الغزل.

فإذا ذهب إلى غرض آخر من أغراض الشعر، نزل شعره، تخصصات برضو يعني لا يفهمها إلا أهلها، يقول: "أما القرآن الكريم، فلغة عالية في كل غرض، فيثبت هذا أنه ليس قول بشر".

فطيب، نحن في عصرنا هذا أو في زماننا هذا، هل يقتصر معجزة القرآن على أنه معجزة بلاغية لغوية؟ ما هو احنا لو كانت المعجزة معجزة القرآن معجزة بلاغية لغوية فقط، لذهبت هذه المعجزة بذهاب أهلها وبذهاب عصرها.

لكن حقيقة لأ، القرآن الكريم من أعجازه أو أحد، يعني أهم أعجازاته هو موضوعه. القرآن الكريم موضوعه هو إيه؟ يعني موضوعه فخم، ضخم، نذير، يعني الله تبارك وتعالى وهو يقول، يعني أنت حين تقرأ: "عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين".

الموضوع جاد، موضوع كبير، ونحن ذكرنا قبل ذلك: "أفمن هذا الحديث تعجبون؟"، يعني هذا هو الموضوع، تتخذون هذا الموضوع بسخرية وتضحكون، ولا تبكون.

فموضوع القرآن موضوع إيه؟ موضوع ضخم، فخم، نذير، فلا يتصور معه، يعني أي إنسان حين يتعرض لخطاب بهذه الضخامة والخطورة، لا يتصور معه أن يغفل عنه أو أن يستهزأ به.

تمام؟ وأيضاً لا تنتهي إعجازات القرآن هنا، فالقرآن الكريم من إعجازاته أنه يتحدى بالغيب، يتحدى بايه بالغيب، أشهر ما في ذلك قوله تعالى: "ألَمْ غَلَبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بضع سنين".

أنا الآن أحاول أن أصور لك نفسية القرشيين وهم يسمعون القرآن، لكي ندرك كيف كان القرآن هو السلاح الأكبر، وهو الأداة العظمى في يد النبي صلى الله عليه وسلم.

بل النبي هو مبلغ للقرآن. فتشف، حين تأتيك آية على هذا النحو: "غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين"، تحدي هائل.

من اللطائف في هذا الموضع، أحد المؤرخين المشهورين جداً الإنجليز، اسمه إدوارد جيبون، هذا المؤرخ كتب كتابًا يعتبر فارقًا في الدراسات التاريخية في المدرسة الغربية، اسمه "تاريخ امحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها".

الإمبراطورية الرومانية الشرقية، البيزنطية. يعني فيقول فيه: "حين كانت جيوش فارس تخترق الإمبراطورية، وترفرف أعلامها، ويحاصر الجيش القسطنطينية" - التي هي العاصمة - "أصله غلبة الروم، هذه كانت هزيمة كاسحة، يا جماعة الخير".

هزيمة الفرس اكتسحت الروم، وسلبت منهم مقدساتهم، وأخذوا منهم الصليب الكبير الذي كانت الروم تعتقد أن عيسى قد صلب عليه، وحاصروا القسطنطينية، التي هي عاصمة الدولة.

احنا في اللحظات الأخيرة من سقوط الدولة، خلاص. فيقول إدوارد جيبون هذا: "وفي هذه الأثناء، جاءت نبوءة من رجل مجهول في الجزيرة العربية، اسمه محمد، يقول بأن الروم ستنتصر وسترفرف أعلامها على الشام من جديد".

وفي ذلك الوقت لم يكن شيء أبعد من تحقق هذه النبوءة. فأنا أقول لك، القرآن الكريم تحدى بالغيب كقوله تعالى أيضاً: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ". "مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ".

"سَيُصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ". ويموت أبو لهب، ولا يفكر في الإسلام. وكقوله تعالى في الوليد بن المغيرة: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا".

إلى قوله تعالى: "سَأُصْلِيهِ سَقَرَ". ويموت الوليد على كفره.

فالقرآن كان أخذاً بزمام الناس، كان خطاباً علوياً رهيبا متحدياً، ولذلك قلت إنه لم يجرؤ أحد على أن يقلد القرآن الكريم، حتى المنسوب إلى مسيلمة الكذاب، حتى المنسوب له، بعض العلماء ينكره، يقول: إن هذا كلام ركيك، لا، لا يمكن أن يخرج من عربي.

يعني نزهوا مسيلمة عن أن ينطق بالكلام الركيك. العرب سلموا لهذا الأمر. طيب، هل يتوقف إعجاز القرآن هنا؟ لا، من إعجازات القرآن إخبار بالماضي وتحديه بأخبار الماضي.

يعني القرآن الكريم يقول: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِن عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ".

انظر عظمة التحدي، ويقول لأهل الكتاب حين كان يذكرهم بحديث كانوا يخفونه ويكتمونه، الذي هو يا أصحاب الأيكة، أصحاب السبت، اليهود كانوا يحبون إخفاء هذه القصة، لأنها تدينهم، شيئ بشع في تاريخهم.

فقال تبارك وتعالى: "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعُدُّونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شِرْعًا، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِي".

ويبقى شيء من الأسرار العلمية، ومن الأسرار أو من الوثائق التي نحرقها، وسائق الأرشيف التي لا أثر لها، ثم يخرج من يتحدى بها.

طبعاً يعني أنباء التاريخ، هذه ما قصه الله تبارك وتعالى من قصص الأولين. يعني ربنا تبارك وتعالى يقول عن سيدنا نوح: "لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا".

في سفر التكوين في التوراة، إن مدة نبي الله نوح في قومه تسعمائة وخمسين سنة. ومن المؤكد أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يطلع على التوراة.

بالمناسبة، التلمود مثلاً، التلمود لم يترجم باللغة العربية إلا في سنة 2011، تلمود الذي هو الشروح على شروح اليهودية، الكتاب الكبير لم يترجم إلا في 2011.

للمؤرخ المصري الدكتور محمد بيومي مهران، وكان من جامعة الإسكندرية، كتاب من أربع مجلدات عن الأحداث التاريخية في القرآن الكريم، وكيف أن النقوش والبحوث الأثرية تثبت ما جاء في القرآن الكريم.

فمن لطيف ما وجدت في هذه... طبعاً، لا أستطيع أن أحكي، ولا حتى شيئاً، هي أربع مجلدات، أحكي لكم جعل مجلد لمصر، ومجرد للعراق، ومجلد للشام، ومجلد للجزيرة العربية.

فمن الأشياء التي قالها إنه مثلاً: فرعون، الذي هو رمسيس الثاني، لم يبقَ من آثاره شيء إلا مهدوماً، فصدق بذلك قوله تعالى: "وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ".

يعني في مدن هو بناها موجودة، أطلال، مش موجودة قائمة، مع أنه في ملوك قبله وملوك بعده، ما تزال، يعني ما يزال الذي بنوه قائماً، شاخصاً، وربنا تبارك وتعالى، حتى في بني إسرائيل.

حين، في آية سورة الإسراء: "وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتُعْلِنَّ عَلُوًّا كَبِيرًا".

في آخر سورة الإسراء: "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا". جئنا بكم من بقية الأرض، وهذا مشهد نراه، مشهد التجمع اليهود من بقية أنحاء العالم.

نعم، ما سمعت، أي نعم، ما أنا بقول لك. هذا من التحدي بالغيب. لكن المجيء بهم لفيفا هو دليل وقوع هذا شيء حصل. تمام؟ وطبعاً مما يمكن أن أنصح به أيضاً لمن أراد أن يتوسع، كتب الدكتور سامي عامري حفظه الله، له كتاب باب اسمه "الوجود التاريخي للأنبياء"، يذكر فيه الآثار والنقوش التي بقيت عن الأنبياء وما جاء فيها وما جاء عنها من القرآن الكريم.

وكذلك له كتاب اسمه "شبهات تاريخية حول القرآن الكريم". وسبحان الله، أمور دقيقة وعجيبة جداً جداً جداً، يعني لا يتسع لها الوقت الآن.

لكن القصد هنا أن المؤرخ العارف بالتاريخ لا يبقى له شك في أن هذا هو كلام الله تبارك وتعالى. واضح. طيب، تعرفون مثلاً من أنباء التاريخ في القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف عليه السلام.

لو أنك تأملت قصة سيدنا يوسف، لوجدتها تحكي عراقة نظام الدولة في مصر. تمام؟ وكذلك يعني مثلاً: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهُمْ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعَدَّتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَأَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا".

شف هنا، شف الترف والرفاهية، الناس كانت بتاكل بالسكاكين قبل أربعة آلاف سنة. تمام؟ وآآ أن مصر مثلاً كان فيها حبس احتياطي. تمام؟ التطور القانوني في مصر، مصر كان فيها إيه؟ حبس، يعني حبس إلى أن يصدر الحكم، وذلك في قوله تعالى: "حَاكِيًا عَنْ سِيدِنَا يُوسُفَ".

"وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانٍ". قال أحدهما: "إِنِّي أَرَانِي أَعْصُرُ خَمْرًا". وقال الآخر: "إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ".

هم دلوقتي في الحبس. الآية تأويل سيدنا يوسف تأويل سيدنا يوسف للرؤيا إيه؟ "أما أحدكما فيسقي ربه خمراً". يعني واحد سيبرأ ويرجع إلى عمله.

"وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه". يبقى احنا دلوقتي فين؟ في الحبس الاحتياطي قبل صدور الحكم، وحتى فيه إشارة إلى القضاء الفاسد.

احنا القضايا الشامخ عندنا عريق. وذلك في قول امرأة العزيز: "وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ لَسَجْنًا". والقضاء كان إيه؟ كان مستقل وشامخ. تمام؟ وفي قوله تعالى: "وَقَالَ يَا بَنِي لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ".

وهنا تدري أيضاً أنه في نظام، في سيستم. أنك مهما دخلت من أي حتة، قادر تصل إلى المطلوب. أشد من ذلك فعلاً، أشد من ذلك هو في قوله تعالى: "حَاكِمًا عَلَى لِسَانِ سِيدِنَا يُوسُفَ".

وقال لفتيانه: "اجْعَلُوا بُضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ". دلوقتي في مجاعة يا جماعة. تمام؟ في مجاعة ومصر هي التي كانت عندها الغلال.

فالناس تأتي بالبضائع لكي تأخذ إيه؟ الغلال. انظر النزام، النزام اللي أنت بتدي البضاعة للدولة، والدولة بتديك الإوعية بتاعتك مختومة، مقفولة ومختومة.

ومن ثقتك في الدولة، ما بتفتحهاش إلا لما ترجع فين؟ إلا لما ترجع إلى بلدك. فلذلك: "اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها". امتى؟ إذا وبالفعل ما فكروش يفتحوها، ثم رجعوا إلى أبيهم، وقالوا: "يا أبانا، منع منا الكيل، فارسل معنا أخانا نكتل، وإنا له لحافظون".

وبعدين بقى بعد ما قال: "هل أمنكم عليه إلا كما أمنتكم؟". تمام، وفي الآخر إيه؟ "وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وجَدُوا بُضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ".

يا سبحان الله، دولة فيها هذا القدر من التعقيد والنظام الإداري، بحيث في ثقة كاملة، الناس ما شافوش ما الذي كان في رحالهم إلا حين عادوا إلى بلدهم.

يعني أصحاب كل علم يجدون في القرآن الكريم ما يثبت لهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كلام بشر، وأنه كلام الله تبارك وتعالى. حتى مجرد التفريق بين كلام الله وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

واضح؟ وهناك كتاب قديم للدكتور إبراهيم عوض، أستاذ الأدب في جامعة عين شمس في مصر، عنوانه "القرآن والحديث مقارنة أسلوبية"، يحاول يشوف أسلوب القرآن ويقارنه بأسلوب الحديث.

أنت بمجرد ما تقرأ الكتاب، يعني بعد عشرين صفحة، مش بعد آخره. توقن أن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن... يعني هذان الأسلوبان لا يمكن أن يصدرا عن شخص واحد. وما في القرآن الكريم، يعني أحد أبرز المشاهد مثلاً في أسلوب القرآن الكريم، ما في القرآن الكريم من علو.

النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في أحاديثه هذا اللفظ العالي، وهناك كتاب أيضاً صدر قريباً، يعني صدر في السنوات الماضية، ليس بعيداً، كتاب اسمه "المعجزة مراجعة في إعجاز القرآن اللغوي" للدكتور أحمد بسام ساعي، أحد المشايخ فوق الثمانين الآن من العمر، كتاب من مجلدين يسميه "السبيكة القرآنية".

يسمي هذا اللفظ، يسمي هذا الأسلوب "السبيكة القرآنية". اجتمع فيها من العناصر. مثلاً، أحد الإعجازات في القرآن الكريم، على ما في كتاب المعجزة، أن القرآن الكريم جاء بألفاظ جديدة لم يسمعها العرب ولم يعرفوها، ومع ذلك حين خاطبهم القرآن بها اتهموها.

متصور، يعني ألفاظ جديدة أعطت معاني جديدة فهموها وخضعوا لها. فهو يعني في هذا كلام كثير لا أطيل بذلك الآن، لكن على كل حال، من أراد أن يتحسن شأنه مع القرآن الكريم، فأن أوصي بكتاب "التصوير الفني في القرآن الكريم" للشيخ سيد قطب رحمه الله، وطبعا بتفسيره الأشهر، الأمثل، الأجمل، الأحسن، تفسير في ظلال القرآن.

فهذا الكتاب كتاب يعني لا مثيل له. ودعكم ممن يشغبون عليه. من العجيب أني وجدت بعض المستشرقين غير المؤمنين وغير مرسلين بوازار له كتاب جميل جداً اسمه "إنسانية الإسلام" يقول فيه إن القرآن لم يقدر فقط لإصلاح أحوال الجاهلية، وإنما هو لإصلاح أحوال البشر في كل زمان ومكان، مستشرق قانوني فرنسي.

فعلى كل حال، والكلام في هذا طويل. الخلاصة التي أريد قولها الآن أن القرآن الكريم أحد الأمور الفارقة التي ينبغي أن نستحضرها ونحن نستعرض السيرة، ليس مجرد كلام عادي كما يمكن أن نفهمه الآن.

تمام؟ النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الصادق الأمين المؤهل للرسالة كما شرحناه في مجالس الماضية. والرجل الذي نزلت عليه هذه المعجزة الكبرى القرآن الكريم. هنا نستفيد من هذا الموقف أنه أي داعية لابد له من أمرين: لابد له أن يكون متمكناً من الأمر الذي يدعو إليه، صح أم لا؟ لابد أن يكون متمكناً، ولابد أن يحسن عرض هذا الكلام البلاغ، بلاغ مبين.

فلذلك حسن عرض الدعوة، حسن عرض الفكرة، حسن عرض الرسالة من ضرورات أن يستمع الناس إليها. وكم في الناس؟ يعني أنتم الآن تعرفون دعاة المسلمين والعلماء المسلمين، كم واحد؟ كثيرون ينطقون عن حق، واحد في نهاية الأمر.

لكن بما يتميز بعضهم على بعض؟ بهذا الحسن. نعم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يفك أسر الشيخ حازم أبو إسماعيل، كان مدرسة في استطاعته حسن عرض الفكرة التي معه. من تابع أيام الانتخابات الرئاسية في مصر، أو يعني أيام الثورة، كان حازم أبو إسماعيل هذا يؤتى به لكي يكسر.

فيكسر تداول الإعلاميين، وكانت الناس تنظر إلى حلقاته كأنهم يتابعون مباراة كرة قدم. يعني نحن كنا شهود عيان عليه في القرآن، يا جماعة الخير. كان معجزة محيرة مربكة، حتى إنه الكفار لم يجدوا إلا أن يقولوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه لعلكم تغلبون".

محنة محنة شديدة تشبه، مثلاً، أنا أريد أن أقرب الصورة، تشبه محنة قوم صالح، ثمود قوم نبي الله صالح مع الناقة. سيدنا صالح معجزته كانت الناقة.

ناقة خرجت له من صخرة، فصار التسقيهم لبناً منفعة مادية محترمة، يعني حتى اللي مش عايز يؤمن أو مستفيد. صح؟ حتى اللي مش عايز يؤمن مستفيد. صح ولا لأ؟ لكن وجود الناقة دي محرج. ما هو الناقة دي طول ما هي موجودة تدل على إيه؟ على صدق هذا النبي.

ما هو صحيح أنا مش مؤمن، بس ما هي ومنتفع برضه، بس ما هو النفع ده محرز للغاية. فماذا كانت الوسيلة؟ عقروها. أنها بقاؤها. يعني أنا مستعد، هو يضحي بالمنفعة الاقتصادية المجانية دي مقابل أنه إيه؟ أن يتخلص من هذا المأزق الذي هو فيه.

فلذلك كان إسلام قريش القرآن عمل عدائي. يعني حين يسلب أبو ذر فيخرج إلى ناديهم ويسمعهم القرآن، هو نفسه يقول فضربت لموت. حين يخرج إليهم سيدنا عبدالله بن مسعود، ويسمعهم القرآن، يقولون: "يؤذينا في ناديينا".

يأتي الموسم، يقولون: "ادركوا هذا الرجل، واتفقوا فيه على رأيه حتى لا تختلفوا". تمام؟ الآن، أول من بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه المرحلة الأولى فتر الوحي، فتر الوحي يعني انقطع الوحي بعد النزول الأول، حتى تشوق له النبي صلى الله عليه وسلم.

نحن قلنا إنه بالحساب، نزل القرآن الكريم أو ابتدأ نزوله في ليلة واحد وعشرين رمضان، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى غار حراء في التقدير الارجح فيما وقعت عليه.

إن الوحي فتر بقية رمضان يعني تسع ليالي حتى تشوق له النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يخرج إلى حراء يريد أن يرى الملك مرة أخرى. فلما نزل صبيحة شوال بعدما انتهى، نزل، فلما كان في بطن الوادي، يقول: فنودي علي فصرت أنظر يميناً وشمالاً، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو جالس بين الأرض والسماء، فجئست.

يعني فسقطت. برضو ما يزال للوحي هيبة ورهبة، فجئست، ثم جرى أيضاً مرة أخرى إلى خديجة رضي الله عنها، ويقول: زملوني زملوني. وعندئذ نزل قول الله تبارك وتعالى (يا أيها المزمل).

وفي رواية نزل قول الله تعالى (يا أيها المدثر). يعني كلاهما، أيهما نزل أولاً. فالمسافة قريبة.

ثم تتابع الوحي. ثم تتابع الوحي. أول من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانت زوجه خديجة رضي الله عنها، وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه، وربيبه علي رضي الله عنه، ومولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.

يبقى هؤلاء الأربعة كانوا أول من أسلم. هذه الحقيقة تحتاج وقفة. حنا أمامنا كم في الوقت، يا بشمهندس؟ آه، يعني ما نقفش. طيب، أنتم إيه رأيكم أن نذكر أولها؟ شوفوا يا جماعة الخير، صلوا على النبي.

هؤلاء الذين أسلموا، وكانوا أول من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حازوا شرفاً عظيماً، صح ولا لأ؟ أول من أسلم هؤلاء. لو أنك تأملت، لوجدت ثلاثة منهم على الأقل هم الذين اختاروا صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.

صح؟ يعني خديجة رضي الله عنها في الأشهر من الرواية هي التي بادرت بالتزوج من النبي صلى الله عليه وسلم. زيد بن حارثة، ذكرنا في المجلس الماضي، أنه جاء أهله ليستنقذونه من الرق والعبودية، فرفض أن يرجع مع أهله، وقال: "لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً لا أختار عليه أحداً، ولا أنت مني بمثابة الأب والعم". فبقي، اختار أن يبقى عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبعث.

وعلي رضي الله عنه كان ربيبا نشأ في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. الخلاصة أو ما ينبغي أن يقال: نكمله في المرة القادمة إن شاء الله.

أنت حيث تضع نفسك، أنت حيث تضع نفسك. الأشخاص الذين تختار صحبتهم، انت تختار موقعك فيهم في الدنيا وفي الآخرة. الذين انتبهوا ويعني استفاقوا وتيقظوا وعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم معدن نفيس من الرجال، فاقتربوا منه حتى صاروا معه، كانوا أولى الناس بالكرامة.

وفي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، من دخل النار والعياذ بالله في قرابة النبي من دخل النار. فالإنسان حيث يضع نفسه. بعض مشايخنا كان يقول: "نم في الركب" أو يعني بالمصطلح المعاصر، يقول لك: "لما تروح المحطة، وعايز تنام، يعني انت غلبك النوم، ما تنامش على المحطة".

"اركب القطر، ونام في القطر". تمام؟ لأنه وأنت نايم، وسط الصالحين، يحملونك معهم، لكن تنام بعيد عن الصالحين، هتفضل نايم تتناوشك الشياطين.

وهذا أمر يعرفه الناس بالطبع، يعني من أراد المال تراه قريباً من أهل المال، من أراد النساء تراه خبيراً بفنون القرب من النساء. من أراد الجاه تراه خبيراً بأساليب الوصول إلى أهل السلطة والجاه.

فهذا أمر يعرفه الناس بالطبع. فحقيقة أنت حيث تضع نفسك. فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في ركاب الصالحين. وأن يجعلنا وإياكم في موكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.