30 دقائق للقراءة
تفريغ مقطع مرئي
0:00/0:00
سجل دخولك للوصول إلى ميزة التظليل والمزيد من المميزات

السيرة النبوية | 3. لن نفهم معنى "رحمة للعالمين" إلا إذا فهمنا هذا الوضع

السَّلام عليكم يا شباب. بسم الله والحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلَّا ما جعلته سهلًا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلًا. اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا. اللهم اجعل عملنا كله خالصًا لوجهك الكريم ولا تجعل لأحدٍ سواك فيه شيئًا، يا رب العالمين.

هذا المجلس الثالث في حديث السيرة النبوية، والتي نسأل الله تبارك وتعالى أن تكون هاديةً لنا لإصلاح واقعنا الذي نحن فيه. فكما ذكرت، إننا لا ندرس السيرة لكي نتمتع أو نتلذذ بسماع الحكاية، وإنما لكي نحاول استلهامها وتطبيقها في واقعنا المعاصر.

طبعًا، نحن الآن في سخونة الأحداث التي تحدث في غزة، لعلنا أكثر فهمًا لأهمية العواصم، المسألة التي تكلمنا عنها في المرة الماضية. ولا شك أنكم تذكرون كيف حين كانت القاهرة، العاصمة المصرية، بيد أهلها أو حتى لا نقول بيد أهلها، نقول في منازعة بين أهلها وبين النظام القديم في فترة السنتين عقب الثورة، كيف كان الموقف المصري مخالفًا تمامًا، وكيف أثر هذا تأثيرًا واسعًا في كل العالم الإسلامي، بما فيه غزة.

غزة التي تنفست وأُرسل إليها السلاح وصارت مدعومةً بمواقف سياسية. ولكني حتى أنا بنفسي لقيت أناسًا من تركستان الشرقية، يعني أقصى شرق العالم الإسلامي، ولقيت أناسًا من مجاهل إفريقيا في دول إفريقية لم نكن نسمع أن بها مسلمين، وكلهم تأثَّروا بهذه الفترة، يعني كلهم أحوالهم تحسنت في هذه الفترة، حتى إنني وجدت بعض الأقليات الإسلامية في أوروبا، وكان من أعجب ما وجدت، أنه حتى المعتقلين في غوانتانامو كانت هذه السنوات هي السنوات الذهبية بالنسبة لهم في معاملة السجانين الأمريكيين معهم وفي التوسعة عليهم.

حتى صفقة تحرير الأسرى لم تتم إلا في فترة ما بعد الثورة. على كل حال، القصد يعني أن الموضوع الذي تكلمنا فيه المرة الماضية، نحن الآن يُفترض أن نكون أحسن الناس فهماً له، لأنه بالنهاية إذا أردنا أن نصلح الأمة بالتأكيد لن نمر على كل واحد من المليارين لكي نحاول إقناعه، وإنما هناك مفاصل ومقابض ومراكز، هذه إذا صلحت صلح الجسد كله.

وهذا المعنى وُجد عند العلماء وهم يشرحون حديث القلب، حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله". ذكر كثير من العلماء في شروح هذا الحديث، وطبعًا متفق عليه في البخاري ومسلم، أن الناس على دين ملوكهم، فإذا صلح الملك صلحت سائر الرعية، وإذا فسد فسدت سائر الرعية، فهو الملك من الرعية بمنزلة القلب من الجسد.

وكان فاتني في الدرس الماضي أن أشير إلى أمر آخر فيما يخص مكة. أنا ذكرت لماذا بُعث النبي في مكة، وذكرنا أن مكة عاصمة العرب، وأن العرب كانوا يتأثرون بما يحدث في مكة، وأن السيرة النبوية تقريبًا كلها هي الصراع حول السيطرة على مكة. النبي أمضى جل وقته في الفترة المكية في محاولة إقناع الزعامات القرشية؛ لأنهم إن أسلموا أسلمت مكة وتبعهم العرب. والفترة المدنية كلها هي فترة الصراع مع مكة، واللحظة التي اعترفت فيها الدولة المكية، يعني بمصطلحنا المعاصر بالدولة الإسلامية، في صلح الحديبية كانت فتحًا مبينًا.

مما فاتني أن أذكره أن عبادة الأصنام أصلاً انتشرت في الجزيرة العربية من مكة. ذهب زعيم مكة عمرو بن لُحَيّ الخزاعي، وكان ذلك أثناء سيطرة قبيلة خزاعة على مكة، ذهب إلى الشام فرأى الشام خصبة وناضرة، فأُوحي إليه بأن الشام في هذه الخصوبة والنضارة لأنهم يعبدون هذه الآلهة. الشام كان تحت سيطرة الدولة الرومانية، والدولة الرومانية كانت دولة وثنية، سنأتي إلى ذلك إن شاء الله اليوم. فأخذ صنمًا وعاد به، فنصبه في مكة، ومنها بدأ تحريف دين إبراهيم في الجزيرة العربية، ومن مكة انتشرت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية.

الفكرة التي تسيطر على العاصمة فعليًا تتردد أصداؤها في بقية الأطراف والأنحاء والبوادي، يعني حتى البوادي، ولو أن منكم من نشأ وعاش في قرية أو في بيئة متطرفة فإنه سيرى كيف أن العاصمة دائمًا ما تفرض أفكارها أكثر مما تفرض الناحية أفكارها على العاصمة. يعني إذا العاصمة مثلًا يزداد فيها التبرج والقرية يزداد فيها الحجاب، مع مرور الزمن، من الذي ينتصر؟ المدينة تتحجب والعاصمة تتحجب أم القرية هي التي يغزوها السفور؟

طيب، المدينة فيها تفكك أسري، فيها تمرد الابن على أبيه والبنت على أبيها وأمها، أو فيها كثرة حالات الطلاق، لكن القرية متماسكة. طيب، مع مرور الزمن، من الذي يتأثر بمن، القرية أم المدينة؟ الأطراف هي التي تتأثر بما يحصل في العاصمة. فلذلك أحد أهم وسائل التغيير أن تبحث دائمًا عن التغيير المؤثر وعن المراكز المؤثرة وعن العواصم المؤثرة في عالمنا الإسلامي.

طيب، هذا يعني امتداد لما كنا قلناه المرة الماضية. الأمر الثاني أيضًا فاتني في الحلقة قبل الماضية، بقى، اللي هو في المجلس الأول، ولفت النظر إليه بعض الأصدقاء. ذكروا أنني ذكرت شرف نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عن قصي بن كلاب وتكلمنا عن هاشم وتكلمنا عن عبد المطلب، وفاتنا أن نتكلم على عبد مناف. نحن ذكرنا أن النبي هو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فأستدرك هذا الآن.

فعبد مناف هذا، الذي هو ابن قصي وأبو هاشم، ذكر أهل السير والتواريخ أن عبد مناف هذا ساد وتزعم في حياة أبيه قصي، يعني في آخر حياة أبيه كانت السيادة قد ذهبت إلى من؟ إلى عبد مناف، رغم أنه لم يكن الولد الأكبر لقصي. الولد الأكبر لقصي كان اسمه عبد الدار، ومنه بنو عبد الدار الذين سيحملون اللواء. فذكروا أن عبد الدار كان ضعيفًا في الرأي، يعني ضعيف الرأي، لم يكن ذا شرف، بينما ساد إخوته الأصغر منه وتزعم في هذه السيادة عبد مناف.

وإنما جعل له والده، والده اللي هو قصي، جعل له المهمات الكبيرة: الحجابة والرفادة والسقاية واللواء، لكي يلحقه بأولادهم. يعني، لو أن الأمر للتنازع الطبيعي بينهم، فبكر عبد الدار هذا كان سيزول أمره ويضمحل شأنه. فلذلك جعل له هذه المناصب الشرفية الكبيرة التي يتولاها في مكة، فوازن قدره مع قدر إخوته الذين سادوا بطبعهم، ومنهم عبد مناف. ولذلك يذكر أهل السير أن عبد مناف هو الذي اختط الأرباع في مكة، يعني نستطيع القول بمصطلح هنا المعاصر أنه بنى مكة الجديدة، الجمهورية الجديدة، زي اللي عندنا في مصر. يعني، نحن ذكرنا أن قصي حول مكة من قرية إلى مدينة ونظم فيها نظامها التجاري، وذكرنا أن قصي كان قوله في قريش دين، تمام؟ فالذي تولى التنظيم الإداري أو العمراني في حياة أبيه ووطد هذا التنظيم كان هو عبد مناف.

فيعني، نحن إذا استعرضنا سلسلة نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فكل واحد من نسب النبي كانت له طفرة في حياة مكة مما جعله أصيلاً شريف النسب. ولقب عبد مناف كان يُلقب بالقمر لحسنه، وكان شاعر قريش يقول: "كانت قريش بيضة فتفل فالمح لعبد منافي"، يعني عايز يقول إنه إذا كانت قريش بمثابة الجوهرة، فأصلها ونخاعها ومركزها كان عبد مناف. فهذا أيضًا مما فاتني أن أذكره.

الآن نحن على مشارف مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نلقي نظرة عامة على شكل العالم حين وُلد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا السؤال سيستتبعه سؤال آخر وهو: إذا كان العالم في ذلك الوقت في جاهلية عمياء، فلماذا اختار الله تبارك وتعالى العرب من بين هذه الجاهلية لكي يبعث فيهم نبيه صلى الله عليه وسلم؟

طيب، بدايةً ننظر مثلاً في الروم. الروم بمعنى الغربيين بمفهومنا المعاصر وهم أوروبا وأمريكا وأستراليا. طبعًا ما كانش في أمريكا وأستراليا في ذلك الوقت، لم يكن أهل هذه المناطق قد اكتشفوا هذه الأنحاء. لكن طبعًا الأمريكيون أو الغربيون خرجوا من أوروبا فبادوا السكان الأصليين للأمريكتين وكذلك لأستراليا، فصارت هذه هي الروم في واقعنا المعاصر. أو هذا هو المجتمع الدولي الآن، المجتمع الدولي هو أمريكا الشمالية، أوروبا، أستراليا، ويلحقون بها أحيانًا اليابان. لكن طبعًا اليابان لم تكن من الروم.

هذه الإمبراطورية الرومانية التي شملت أوروبا تقريبًا انقسمت إلى إمبراطورية رومانية شرقية عاصمتها القسطنطينية، وإمبراطورية رومانية غربية عاصمتها روما في إيطاليا. هذا الانقسام مع مرور الزمن صار انقسامًا أصيلاً وعميقًا وكبيرًا. وبالتالي، فنحن أمام الإمبراطورية الرومانية الشرقية، تسمى الإمبراطورية البيزنطية، عاصمتها القسطنطينية اللي هي إسطنبول دلوقتي، لغتها اليونانية، مذهبها المسيحية الأرثوذكسية. تمام؟ على الجانب الآخر، الإمبراطورية الرومانية الغربية، هذه عاصمتها روما، مذهبها المسيحي كما استقرت عليه الكاثوليكية، لغتها اللاتينية.

وهذا الانقسام انقسام هائل ولا يزال قائمًا حتى هذه اللحظة. يعني مثلاً من قرأ كتاب "صدام الحضارات" لصمويل هنتنجتون، صمويل هنتنجتون لا يرى أن أوروبا الشرقية هي تابعة للغرب الذي يعنيه. الغرب الآن هو أوروبا الغربية، تمام؟ اللي هي امتداد للدين الكاثوليكي اللي انقسم بعدين وبقى فيه مذهب بروتستانتي، وامتداد للغة اللاتينية التي تفرقت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية. وبالتالي، فهذه حضارة بخلاف الحضارة الشرقية التي يسميها هو الحضارة السلافية التي تمثلها الآن روسيا ومحيطها في أوروبا الشرقية.

واضح أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية هي التي تحتفظ بقوتها وبشدة، بينما كانت الإمبراطورية الرومانية الغربية تعرضت للتفرق والتمزق والتهديد تحت اجتياح القبائل الشمالية. القبائل الشمالية اللي هي يعني الآن الشعوب الواردة من ألمانيا ومن السويد ومن النرويج. هذه القبائل اجتاحت روما وعاشت كل أوروبا الغربية في فوضى هائلة. لذلك، لما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، أي المدينتين تُفتح أولاً، القسطنطينية أم روميه؟" قال: "مدينة هرقل"، اللي هي القسطنطينية. كان هذا بالنسبة للصحابة شيء عجيب، لأنه كان الأسهل في ذلك الزمن فتح روما، لأن روما كانت في حالة من الفوضى الهائلة، لكن القسطنطينية كانت في حالة من القوة والحضارة والنضارة.

وبالفعل تحقق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه في ذلك الوقت كان يبدو بعيدًا عن الأذهان.

طيب، فنحن حين نتكلم عن الروم زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنعني به الإمبراطورية الرومانية الشرقية، التي تُسمى الإمبراطورية البيزنطية، التي عاصمتها القسطنطينية، زعيمها هرقل، لغتها اليونانية، مذهبها المسيحية الأرثوذكسية.

هذا هو الشكل أو كيف كانت تحيا الإمبراطورية الرومانية. طبعًا من يحب منكم متابعة الأفلام الأجنبية بالتأكيد سيجد أن من أبرز المظاهر هي مظاهر العبودية، وكيف أن الملوك كانوا يتعاملون مع الناس باعتبارهم عبيدًا. حتى أن أحد التسالي التي يتسلى بها الجمهور ويتسلى بها الملك كانت كيف أن العبيد يصارعون بعضهم أمامه حتى يقتل بعضهم بعضًا، أو كيف كانوا يُلقون بالعبد لكي يصارع الأسد.

فالإمبراطورية الرومانية احتوت المخازي الإنسانية، ومسألة العبودية الشديدة التي تجعل العبد مجرد أداة للتسلية، وتجعله غير مالك لأمر نفسه، وتجعل التضحية به أو قتله أمرًا لا يثير إشكالًا لأنه مجرد عبد. ومع ذلك، فهذه الإمبراطورية الرومانية كانت تنتشر فيها الحياة المادية الشديدة، من الترف والزخارف والبذخ الشديد الذي كان يعيش فيه الملوك.

وطبعًا، أنت حينما تسمع عن بذخ شديد كان يعيش فيه الملوك ينبغي أن تعكس الصورة مباشرة لترى تحت ذلك شعبًا يعاني من دفع الضرائب، لأنه من أين سيأتي الملوك بالأموال؟ يأتون بها مما أنتجه الناس. فلذلك، تبصر حياة المترفين فتجد أنها حياة مترفة باذخة مليئة بالشهوات. حتى أنه كان من المظاهر والمشاهد التي انتشرت في ذلك الوقت هو حب العزوبية، والانصراف عن الزواج.

أنت تعرف أن أي مجتمع شهواني أو أي مجتمع تسيطر عليه الشهوة، الزواج فيه لابد أن يتأخر ويقل. هذه من قواعد الاجتماع البشري، لأن الزواج هذا هو مسؤولية ورعاية، الرجل يتكلف فيه أن يرعى المرأة ويرعى الأولاد. لكن الذي يريد أن يشبع شهوته، فبالتأكيد لن يكون هذا هو الخيار المناسب.

ولذلك، أحد الأشياء المهمة التي لا يتصورها أو لا يتخيلها كثير من النساء المعاصرات، أن الزواج هذا حماية للمرأة قبل أن يكون للرجل. يعني، لو لم نكن مسلمين، لكنا سنظل نقول إن الزواج هذا هو مؤامرة نسائية على الرجال. صح، لأن الرجل لا يتكلف شيئًا. يعني، الرجل إذا لم يلزم برعاية المرأة ورعاية الأولاد، هو يقضي شهوته ويذهب. من الذي يعاني؟ من الذي يعاني في الحمل وفي الولادة حتى يعاني نفسيًا وعصبيًا وجسديًا؟ المرأة. يعني، لو لم نكن مسلمين، كنا سنظل أن الزواج مؤامرة من النساء على الرجال.

فأحد المشاهد التي انتشرت في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت هو الطغيان المادي والطغيان الشهواني وقلة الزواج. وهذا مظهر منتشر في كل الحضارات التي تميل إلى الجانب المادي، كما هو منتشر الآن في أوروبا. طبعًا كلكم تعرفون نسب الأبناء غير الشرعيين وحالات الطلاق وقلة الزواج. والآن صار من المعتاد جدًا في البلاد الأوروبية والأمريكية أن يكون هناك مساكنة ومعايشة بدون عقد زواج. وأحد أشهر لاعبي الكرة، كلكم تعرفونه، أنجب أربعة أطفال لكن ليس لديه نية للزواج. وسمعت أيضًا عن لاعب مغربي آخر، لكن لا أريد الدخول في هذه القصة الآن. الخلاصة هي أن المجتمع طالما انحاز إلى المادية والشهوانية فإنه يبتعد عن الزواج وعن رعاية الأولاد. وهذا نذير بانهيار المجتمعات.

الأمر الثاني، لو نظرنا في الإمبراطورية الرومانية دينيًا، فسنجد أنها... تسمعون كلمة الجدالات البيزنطية. يعني إيه الجدالات البيزنطية؟ يعني الجدالات العقيمة، غير المفيدة، غير المهمة، غير المؤثرة. هذه الجدالات عُرفت "بالبيزنطية" لان الحالة النصرانية المسيحية الأرثوذكسية في ذلك الوقت كانت في حالة من الجدالات حول الدين. طبعًا الحقيقة أن المسيحية طُمست على يد بولس وازدادت انطماسًا حين تبناها قسطنطين.

قسطنطين هذا الملك الروماني الذي اعتنق المسيحية وبدأت المسيحية منه في الانتشار لأنها صارت دين الدولة الرسمي. لكنه يريد أن يوفق بين الشعب الوثني وبين هذه الديانة النصرانية، فصار يأخذ من الوثنية إلى النصرانية ويطعم هذا بذاك حتى صارت المسيحية التي أصلها ديانة توحيد، ديانة مليئة بالتماثيل والصور. فكما يقول القاضي عبد الجبار: "لم تتنصر الروم ولكن ترومت النصرانية"، يعني تأثير الوثنية والعادات الرومانية في النصرانية كان أشد من تأثير النصرانية في العادات والسلوك والطبائع الرومانية.

طبعًا، هذا بخلاف تمامًا ما جاء به الإسلام. الإسلام قلب حياة العرب وجعلهم أبناء دين آخر يعني دخلوا فيه بكليتهم. فبالتالي هذا التوزيع، هذا التطعيم بين الوثنية والنصرانية وهذه الفكرة المعقدة حول التثليث وأنه الأب والابن والروح القدس، وأيهما كان قبل الآخر، وهل اللاهوت متحد بالناسوت أم أنهما يفترقان ويجتمعان، هل المسيح له طبيعة واحدة إلهية وبشرية أم له طبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة البشرية؟ كل هذا، يا جماعة الخير، كان مثار نقاشات واختلافات وحروب ومذابح.

كانت هذه المسائل مما فجّر الحروب والمذابح والمنازعات، خصوصًا بين كنيسة القسطنطينية والكنيسة المصرية (الكنيسة القبطية). الكنيسة المصرية لو أردت أن أشبهها تشبيهًا بعيدًا، لكنني أحاول تقريب الصورة، فهي أشبه بالحالة السلفية التي لا تقبل أن تتزحزح عما تعتقد ولو نص ملي، ولو ربع ملي. فمهما حاولت الكنيسة القسطنطينية أن تتقدم خطوة، الكنيسة القسطنطينية كانت ترى أن المسيح له طبيعتان: طبيعة بشرية وطبيعة إلهية. أما الكنيسة المصرية فكانت ترى أن المسيح له طبيعة واحدة وهي طبيعة إلهية وقد ذابت فيها الطبيعة البشرية حتى اضمحلت، يعني لم تعد هناك طبيعة بشرية.

طيب، هذا الخلاف أدى إلى قرنين من النضال والكفاح والمشاكل والمذابح والحروب. فمصر في ذلك الوقت كانت تُسمى عهدها عهد الشهداء، بالذات في سنوات كان يتولاهم أحد الولاة الذي أراد أن يمحو مذهب الكنيسة المصرية بهذا الشكل.

فمصر كجزء من الإمبراطورية الرومانية الشرقية كانت تعاني من اضطهاد في وقت واحد: الاضطهاد الديني، وهو محاولة إلزامها بمذهب الكنيسة القسطنطينية، والاضطهاد السياسي، لأن مصر كانت مخزن غلال الإمبراطورية الرومانية. مصر باعتبارها تحتوي على نهر النيل وباعتبار أرضها خصبة، فدائمًا ما كانت مهمة في كل إمبراطورية كانت فيها.

واجتمع على أهل مصر في ذلك الوقت الاضطهاد الديني والاضطهاد السياسي. حتى انهم دمروا الكنيسة القبطية وفر القساوسة المصريون إلى الأديرة في الجبال. وإلى الآن لا تزال الأديرة المسيحية منتشرة في الجبال والصحاري البعيدة. وكان البطريرك الكبير للنصرانية هاربًا هائمًا على وجهه لأنه كان مجرد ما يُكتشف أن هذا مخالف للعقيدة الصحيحة من وجهة نظر القسطنطينية يتم تعذيبه بالإحراق والاغراق، يعني بأن يُوضع مثلًا في أجولة تمتلئ رمالًا ثم يُرمى به في البحر، بالتقطيع. يعني عصر من العصور الشديدة الشنيعة التي كانت موجودة في ذلك الوقت.

أضف إلى ذلك أن هذه الإمبراطورية الرومانية الشرقية كانت هي بقية النصرانية، يعني هذا هو الصورة الباقية من النصرانية، يعني هذا هو المكان الذي فيه بقايا الوحي. يعني متصور هذا أحسن مكان في العالم في ذلك الوقت بهذا الشكل الذي طغت عليه الجدالات والشهوانية والاضطهاد السياسي.

إذا ذهبنا إلى الفرس، فالفرس أيضًا كانوا يعبدون النار. ما تعرفون، الفرس كانت تنتشر فيهم المجوسية وكانوا يعبدون النار. وكان فيهم أيضًا نفس الحالة الطبقية التي تعني أن كسرى هو صاحب دم ملكي. الدم الملكي هذا هو دم مختلف عن دماء بقية الناس، هذا دم منبعث من الإله. لذلك كسرى هذا كان رجلًا مقدسًا، والنبلاء الذين بعده كانوا بالنسبة لمن بعدهم رجال كبار، وبقية الشعب هو الذي يدفع الضرائب ويعطي الأموال ويستقبل الاضطهاد.

لكن حتى هؤلاء الرجال الكبار المحيطين بكسرى لا يُسمح لهم بالجلوس في حضرة كسرى، يجب أن يكونوا وقوفًا. بل لا يُسمح للفرس أن يجري اسم كسرى على ألسنتهم لأن هذا تدنيس لاسمه. ومن هنا تفهمون أن الفرس كانوا حين يزول منهم الشخصية القوية التي تملك أن تحكم كانوا يأتون بالطفل الصغير من نسل كسرى لكي يحكم لأنه هو الذي فيه الدم الملك النبيل. ولو لم يجدوا طفلًا جاؤوا بامرأة كما تولت بوران بنت كسرى وكما تولت أختها التي قبلها.

وهنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهنا يقع الخلاف بين بعض العلماء في مسألة ولاية المرأة، هل كان كلام النبي كلامًا عامًا أم كان متعلقًا بواقعة محدودة بهذا المعنى؟ وهذا أمر فقهي لا ندخل فيه.

فكسرى كان يحكم الفرس. الفرس كان فيهم نفس هذه الطبقية، اضطهاد الفلاحين والإجبار على عبادة النار. وانتشر في فارس طبعا برغم الإمبراطورية الفارسية كانت إمبراطورية قوية وعظيمة وامتدت من أفغانستان ومن حدود الصين إلى أحيانًا كانت تقترب من القسطنطينية. وفي أوقات تمددها كانت تسيطر على الشام ومصر، يعني لم تكن دولة هينة، كانت دولة كبيرة وقوية.

ظهر فيها مذاهب دينية متضاربة. يعني لو نتحدث عن أحوالهم الدينية، سنرى أن الأصل أنهم كانوا يعبدون النار. وأصل عبادة النار هذا كان مستقى من رجل فيلسوف، ربما كان نبيًا وربما زعم لنفسه النبوة، وهو زرادشت، الشخصية المشهورة في التراث الفارسي. لكن حين نقترب من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، اللقطة التي نريد أن نركز عليها هنا، سنرى أن الفرس انتشرت فيهم الشيوعية.

الشيوعية هذه التي نظّر لها ماركس ونفذها لينين كان لها أصل قديم عند فيلسوف اسمه مزدك، وتنسب إليه المزدكية. هذا الرجل كان رد فعل على رجل قبله اسمه ماني. ماني هذا كان يرى أن العالم فاسد، وبالتالي أخذ طريق الرهبانية وطريق الانعزال وطريق التخلي عن الزواج، قال إن العالم فاسد أصلا ويجب أن نساعد العالم لكي يتخلص من نفسه، يجب أن نسارع بفناء هذا العالم. فبالتالي دعا إلى عدم الزواج ودعا إلى الرهبنة ودعا إلى التقليل من كل شيء.

فقتله مزدك، وهذا كان رد فعل على فكرة ماني، وهو يقول إن أصل الفساد والشرور في العالم هو الملكية. أنت عندك بيت وأنا لا أملك بيتًا، أنت عندك زوجة وأنا لا أملك زوجة، أنت عندك أولاد وأنا لا أملك أولادًا. طيب، ما الحل يا أستاذ مزدك؟ الحل أن نقضي على الملكية، وبالتالي تكون الأموال الموجودة هي أموال الجميع، والنساء الموجودات هن نساء الجميع، والأولاد الموجودون هم أولاد الجميع.

طبعًا، هذه الفكرة الشيوعية التي الآن أقولها بشكل ساخر، لكن هي حين تخرج في مجتمع طبقي، انتبه، شوف أي فكرة سادت لابد أن تعرف أنها كانت تتلبس بعض الحق وأنها كانت استجابة لبعض الدوافع الموجودة في مجتمعها. يعني حتى لو أن المحاضر أو المتكلم يعرض الفكرة بشكل ساخر، لا ينبغي أن تستقبلها أنت بهذا الشكل الساخر. أي فكرة نجحت لابد أن كان لها بعض الدوافع وكان فيها بعض الحق.

ما الذي جعل الشيوعية أصلا فكرة تنتشر؟ يعني حتى الشيوعية المعاصرة، ما الذي جعلها كذلك؟ لأن هناك تفاوت طبقي هائل، هناك أناس مترفون وأناس معدمون، أناس يمتلكون القصور والأموال والأنهار، وأناس لا يمتلكون قوت يومهم، أناس يتنعمون بالنساء والجواري بالمئات والآلاف، وأناس لا يستطيعون أن يتزوجوا ولو زوجة واحدة, أناس يعيشون في الرخاء والرفاهية، وأناس لا يجدون المسكن الصحي.

مزدك هذا كان شخصية قوية وشخصية زعامة، فنشر فكرة الشيوعية. فكرة الشيوعية هذه تخاطب أقوامًا كما قلنا عضّهم الفقر وعضّتهم الحاجة. وأهم ما فعله مزدك أنه استطاع إقناع كسرى حاكم فارس، قباذ الأول بهذه الفكرة، فكرة الشيوعية. وهذا كان غريبًا أن يقتنع إمبراطور، هو صاحب الأملاك، بفكرة شيوعية، صحيح. فما إن اقتنع بها وبدأ يسعى في نشرها حتى تحولت المملكة إلى حال من الفوضى، لأنه صارت كل مجموعة شيوعية تهجم على البيت الذي تحبه، تأخذ المال الذي تحبه، تسبي النساء التي تعجبهم. وبعد قليل صار الرجل لا يعرف أولاده، لأنه صار الرجل يُغلب على أملاكه ويُغلب على زوجته.

وبلغ الأمر بمزدك هذا أنه قال لكسرى قباذ إنك لا يمكن أن تكون مخلصًا لهذه الفكرة إلا لو أخرجت زوجتك الملكة لكي نستمتع بها، وده التطبيق الحقيقي، صح. ولذلك ابنه أنوشروان، الذي صار كسرى بعده، طبعا هنا الروايات تختلف ما الذي حصل، لكن يعني الرواية المشهورة أن ابن أنوشروان توسل إلى مزدك أن يعفي أباه من هذا الواجب الديني، وما يزال به حتى فعلا عفا عن أبيه. لكن أنوشروان هذا أصر وأضمر في نفسه أن لو أمكنه الله منه لقتله. وبالفعل، ما إن مات قباذ الأول وتولى أنوشروان حتى كان أول ما فعله أن قتل مزدك وطارد المزدكيين.

مزدك هذا مات قبيل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بنصف القرن فقط، يعني أو 40 سنة أيضًا على الخلاف. نحن ذكرنا أن النبي وُلد في 20 شهر أبريل (نيسان) سنة 571.

قبائل بين المؤرخين، يعني إذا ذكرنا أن إمبراطورية الفرس كان فيها هذه الطبقية، كان فيها هذا الظلم في الحكم، كان فيها عبادة النار، وكان فيها حتى هذه المذاهب الفاسدة.

وفيما يخص الطبقية، طبعًا ذكرت لكم أنه حتى كبار رجال الدولة لا يستطيعون أن يجلسوا في حضرة كسرى ولا يستطيعون أن يتكلموا باسم كسرى. هذا سنراه ونفهم منه، يا شباب، حين نأتي في قصة الفتوحات الإسلامية. لو تتذكرون الموقف المشهور الذي نحفظه جميعًا، موقف سيدنا ربعي بن عامر وهو يدخل على رستم.

ربعي بن عامر كان واحدًا من ثلاثة سفراء. السفير الثاني كان سيدنا المغيرة بن شعبة. سيدنا المغيرة بن شعبة لما دخل على رستم، دخل بهيئة تشبه هيئة ربعي بن عامر، لكن سيدنا ربعي بن عامر، كما تروي الرواية، أنه حين رأى رستم أمامه جلس على الأرض.

سيدنا المغيرة بن شعبة رأى رستم أمامه فراح قاعد جنبه، فانهال عليه الحرس حتى جرجروه، وبعبارة الطبري "ترتروه"، يعني تشعر أنهم تنازعوا حتى أجلسوه على الأرض.

فقال: "إن معشر العرب قوم لا يستعبد بعضنا بعضًا إلا أن يكون محاربًا له". يعني العرب إذا جلسوا ليست عندهم هذه الطبقية، فالذي يجلس يجلس على نفس البساط والوسادة التي يجلس عليها صاحبه العربي، إلا أن يستعبد بعضنا بعضًا. ولقد علمت أن ملككم إلى أفول، فإنه لا تنتصر أمة يستعبد بعضها بعضًا.

فهذا مشهد يعني تلتقط منه كيف كان رستم هذا ليس من بيت الملك. رستم هذا كان القائد الحربي، كان قائد الجيش، يعني لم يكن هو من بيت الملك أصلاً. لكن هذا يشير ويلفت نظرنا إلى الطبقية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت.

طيب، إذا تركنا الفرس وذهبنا مثلاً إلى الهند. الهند يا جماعة الخير، كان فيها نظام من أغرب وأبشع الأنظمة التي يمكن أن تسمعوا بها. طبعًا معرفتنا بتاريخ الهند ترجع إلى العلماء المسلمين الهنود، وفي طليعتهم الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله، وذكر ذلك في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، وهو كتاب مهم.

في كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" يقول أبو الحسن الندوي إنه يمكن أن نلخص أحوال الهند قبيل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أمور: الأمر الأول الوثنية الطاغية. فيذكر أن الهند كان فيها ملايين المعبودات. كل شيء يمكن أن يكون إلهًا، من الأصنام طبعًا، حتى الآن أكيد تسمعون في بعض الأفلام الهندية عن أصنام صغيرة وكبيرة ومتوسطة، أصنام رجال ونساء وحيوانات. يعني نحن أمام متحف مفتوح من الأصنام. وفوق الأصنام، بعيدًا عن الأصنام والحجارة والخشب، كل شيء يمكن أن يكون معبودًا كالجبال. تقول الأسطورة إن هذا الجبل مثلاً سكن فيه نبي أو سكن فيه قديس أو نزل فيه وحي أو كُتب فيه فلان الكتاب المقدس. الجبال، الأنهار، الأفلاك، النجوم، الشمس، القمر، الكواكب مثل زحل، الحيوانات مثل الفئران، العناكب، القطط، الكلاب، وطبعًا البقر أشهر شيء معبود في الهند.

فالمهم، الوسائل والأدوات، يعني حتى الأقلام حتى الكتب حتى المحاريث، كل هذه أمور ترمز إلى الخير، مثلاً المحراث يرمز إلى الخير وبالتالي فهو منبع للخير. لماذا عبدوا البقرة؟ لأن البقرة رمز للعطاء، البقرة طبعًا هم لا يأكلون لحمها لكنها تعطيهم اللبن فهي رمز للعطاء. وبالتالي يعبدونها. حتى عبادة بعضهم بعضًا، فبرضه كل واحد معجب بشخص، وما فيش مانع أنه يعبده. المهم، يعني عندنا أقصى مراتب الحرية في موضوع اتخاذ الإله. كل من يعجبه شيء يعبده. هذه يسميها الوثنية الطاغية.

وطبعًا الشيخ أبو الحسن الندوي ذكر رقمًا ما زلت لا أستوعبه، ذكر أنه كان في الهند 330 مليون معبود. فأنا لا أدري إن كان هذا دقيقًا أم خطأ في الكتابة، لا أدري. لكن المهم أن الوثنية الطاغية كانت تجعل الهند مسرحًا للمعبودات.

يقول إن الهند تلخص في ثلاث أمور: الوثنية الطاغية، الشهوانية الطاغية. الشهوانية الطاغية هذه أيه؟ طبعًا لما تكثر المعبودات، يا جماعة الخير، المعبود هذا خلفه قصة جعلته معبودًا. يعني لو أن أحدا أراد أن يعبد علبة مناديل، لن يقول هي عجبتني ويكتفي, لا بد أن يكون وراءها قصة تجعلها مقدسة. فحيث أن عندنا ملايين المعبودات، فعندنا ملايين القصص. ويذكر الشيخ الندوي أيضًا أن كثيرًا من هذه القصص كانت قصصًا منافية للآداب مما لا يمكن حكايته في مجالس درس ولا في مجالس أُنس حتى. أخبار الآلهة وصراعاتهم ومحاولات اختطاف بعضهم لبعض.

يعني قصص هائلة، منها كم كبير من القصص التي تنافي الآداب وتشعل وتثير دائمًا الشهوات. يقول وهذا أثّر في أذهان وخيال وأعصاب حتى المتدينين. يعني عندما يكون الكاهن هو الذي يروي لك القصص المنافية، تخيل كيف يكون سلوكه؟ كيف يكون تعامله مع الناس والأولاد والبنات والنساء؟

فيقول، وبالتالي، فكانت معابد الدين الهندوسي بيوتًا للرذيلة. يجد فيها الطالب بغيته ويجد فيها الفاسق طلبته. فإذا كان هذا في بيوت الدين التي ينبغي أن تذكر بالله، فكيف تتصور أن يكون الأمر في قصور الملوك والأمراء؟ فيعني ذكر أنه كانت هناك حالة هائلة من الإباحية والانحلال التي كانت موجودة في ذلك الوقت.

العنصر الثالث وهو الطبقية الشديدة. نحن قلنا إن الهند لُخِّصت في ثلاث عناصر: كثرة المعبودات، الوثنية الطاغية، الشهوانية الجامحة، والطبقية الشديدة. لأن الهند كانت تحتوي على أبشع نظام طبقي، فقد كان قانونهم يقسم الناس والجماهير إلى أربع طبقات.

الطبقة الأولى هي طبقة البراهمة. البراهمة هؤلاء رجال الدين الكهنة، وهؤلاء خلقوا من فم الإله. أيه وظيفتهم؟ هؤلاء وظيفتهم قراءة الكتاب المقدس، حفظ الكتاب المقدس، تقديم النذور للآلهة، استقبال الصدقات، وتشريع القوانين. وليس لأحد عليهم حق، هم الذين لهم حقوق على الناس، لا يدفعون الضرائب، وإذا استحق أحدهم القتل فيجب أن يُحلق شعره. هذه الطائفة المميزة العليا التي لها كل المزايا وغير خاضعة للقوانين.

الطبقة الثانية طبقة رجال الحرب. طبقة رجال الحرب هؤلاء خلقوا من ذراع الإله. الأوائل خلقوا من فم الإله، هؤلاء نزلوا شويه في المرتبة فخلقوا من ذراع الإله. أيه دورهم؟ الحماية والحراسة وخدمة طبقة البراهمة.

الطبقة الثالثة هؤلاء طبقة الزراع والتجار، وهؤلاء خلقوا من فخذ الإله. نزلوا في القداسة كمان شويه، وهؤلاء وظيفتهم رعاية الأموال والتجارة والأرض والحيوانات، يعني القيام بالأمور التي تخدم الطبقتين الأولى والثانية.

والطبقة الأخيرة طبقة تُسمى "شودر". هذه طبقة خلقت من أيه؟ من أقدام الإله. هؤلاء خلقوا لماذا؟ للخدمة، لخدمة الطبقات الثلاثة. فهؤلاء خلقوا للخدمة وهؤلاء يجب عليهم أن يعرفوا أن من سعادتهم أن يخدموا الطبقات الكبرى والعليا، ولا يجوز لأحد أن يتطلع إلى ما فوق مرتبته. يعني الجماعة اللي في الرابعة ما يفكروا يجروا أو يزرعوا عشان يبقوا في الثالثة لأنهم خدم خلقوا لكي يكونوا خدمًا. ولا الجماعة اللي بيزرعوا، ليس مسموحًا لهم أن يفكروا في الحرب.

بل يقول القانون إن الطفل الذي بلغ العاشرة من عمره من طبقة البراهمة، وهي طبقة الصفوة، يُفضَّل على الرجل الذي من طبقة الحرب التي هي الطبقة الثانية، بل يُفضَّل على الرجل الذي من طبقة الحرب الذي بلغ 100 عام. يبقى الطفل أبو 10 سنين أفضل من الرجل أبو 100 سنة من الطبقة الثانية، كما يُفضَّل الوالد على ولده.

طبعًا الطبقة الأخيرة دي بقى فيها بنود كثيرة للعقوبات. يعني إذا مسَّ أحدهم يد واحد من البراهمة أو يد طفل من البراهمة، فتُقطع يده. إذا كلمه، يُقتلع لسانه. إذا قال بأنه كان يوجهه، مثلاً إذا كان أحد الخدم يرعى طفل من أطفال البراهمة وقال له مثلاً "هتقع ما تروحش كده أو تيجي كده"، وإذا ادعى أنه يوجهه، يُسقى زيتًا مغليًا. إذا فكر أن يجلس في حضرته، تُكوَّى مقعدته. ودية هذا الرجل من هذه الطبقة كدية الغراب والبومة والفأر والعنكبوت والكلب.

فهذا كان شكل الهند طبعًا، يا جماعة الخير. أنا أذكركم بما ذكرناه بأننا لا يمكن أن نعرف فضل النبي على العالمين إلا حين نعرف وضع العالمين بدون النبي صلى الله عليه وسلم. وما يزال حتى هذه اللحظة التي نتكلم فيها، العالم يعاني من بشائع أخرى. لكن يعاني من بشائع أخرى، لكن لا يتسع الوقت لنوردها الآن، لعلنا نأتي إليها في مرة قادمة.

نأتي عند العرب، جاهلية العرب أيضًا. العرب كان لديهم وثنية جامحة، لكن طبعًا ليست بنفس العدد الذي كان عند الهنود. لكن برضه العرب كان لكل قبيلة منهم إله، ولكل بيت منهم إله، وإذا خرجوا في السفر، والرواية البديعة الطريفة التي تثير التأمل، يقولون: كان الرجل إذا خرج في السفر انتقى أربعة أحجار، فيأخذ أحسنها فيعبدها، وأما الثلاثة الباقية فيجعلها حجارة لموقد النار. شوف الفرق، يعني إما أن تكون إلهًا، وإما أن تكون حجرًا في الموقد.

فالعرب كان لديهم أيضًا أشياء كثيرة ومعبودات كثيرة من الأصنام، وكانوا يعبدون الجن أحيانًا، وبعضهم كان يعبد الأفلاك، بعضهم كان يعبد الشمس، وبعضهم كان يعبد القمر. العرب كانت فيهم أيضًا الطبائع الجاهلية التي هي من آثار عنفوان الإنسان وطغيانه.

أنتم تعرفون حكيم العرب الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى، سُمي بالشاعر الحكيم لأن معلقته تحتوي على الكثير من الحكم. هو نفسه الذي يقول: "ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم، ومن لا يظلم الناس يُظلم". إذا كنت عربيًا فأنت بين خيارين، إما أن تظلم وإما أن تُظلم. وهذا المعنى كرره المتنبي فيما بعد، قال: "والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم". يعني لو وجدت شخصًا لا يظلم، ربما لديه مشكلة أو شيء لا نعرفه.

العرب كان فيهم صورة من كل هذه المشكلات التي ذكرناها. يعني كان لديهم وثنية، صحيح، لكن لم تكن بهذه الكثرة. كان لديهم طبقية، يفرقون بين الشريف والضعيف وبين الحر والعبد. كان لديهم مظالم أيضًا، العبيد والإماء، والله كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، وكانوا يكرهون عبيدهم على الحرب. وكانوا يتعاملون فيما بينهم بالربا، والربا الفاحش، وهذا الربا قد يؤدي إلى استعباد الناس. يعني إذا عجز المدين عن أداء الدين فإنه قد يبيع نفسه أو يبيع ولده.

وكان طبعًا لديهم ظلم هائل للمرأة، فالنساء في الجاهلية كانوا في ظلم. كانت تُوأَد، وربما كانت تُوأَد لأسباب، أحيانًا يُؤدها لأنها بنت، فهو يخشى أن تأتي بالعار. وأحيانًا يُؤدها لأنها ولد، لأن أحيانًا العرب كانوا يقتلون أولادهم إما من إملاق، يعني إما بسبب الفقر، وإما خشية إملاق، يعني خشية أن يصيبهم الفقر بكثرة العيال. وكان الرجل إذا ورث أباه ورث نساء أبيه، فإما تزوج امرأة أبيه، أو زوجها وأخذ مهرها، أو عطلها فلا هو سمح لها بالزواج، ولا هو تزوجها.

لكن الذي يهمنا الآن هو أن العرب، ورغم أن فيهم كل هذه البشاعة التي ذكرناها، يعني صحيح كان عندهم طبقية، لكنها لا تصل أبدًا لطبقة الفرس ولا الروم ولا الهند. ولذلك من قول المغيرة الذي ذكرناه قبل قليل: إن معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضًا. كان لديهم ملوك، لكن ملوك غير مستقرة، يعني الجزيرة العربية ما كانش فيها ملوك إلا في فترات بسيطة، ظهر ملوك كندة في وسط الجزيرة، وظهر الملوك في المناطق المتاخمة لفارس والروم عند المناذرة القريبين من فارس وعند الغساسنة القريبين من الروم. ومع ذلك، لم يكونوا في قومهم، يعني ملوك غسان أو ملوك المناذرة لم يكونوا بهذه القداسة ولا بهذا التعظيم لدى أتباعهم. طبعًا فضلًا عن وسط الجزيرة العربية، لم يكن الزعيم يستعبد أحدًا.

وذكرنا لكم في الحلقة التمهيدية قولهم وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن دينا. ومعلقة عمرو بن كلثوم المشهورة إنما أنشدها في حضرة ملك، في حضرة عمرو بن هند، ويقول له:

"أبا هند فلا تعجل علينا،

وأنظرنا نخبرك اليقين،

بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاً,

وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا،

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا،

ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا."

شوف بيكلم مين! طبعًا نحن قلنا بتاع كسرى ده ما حدش بيقول اسمه، فالفارق هائل جدًا في مسألة التسلق. وبعض أخلاق العرب هذه كانت نوعًا من المبالغة والتهور والإفراط في أخلاق حميدة أصيلة، يعني خلق الفتك، خلق الفتك ده خلق من أين أتى؟ من خلق الشجاعة، لكنهم بالغوا فيه حتى وصل إلى الظلم تمامًا. كما ذكرنا: "ومن لا يظلم الناس يُظلم"، وكما قال شاعرهم: "لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانًا." فالفتك والظلم هو فرع من الشجاعة، لكن حصل فيه مبالغة حتى وأد البنات مثلًا يكون فرعًا عن التعفف، وأن الرجل لا يريد لابنته أن تنحرف أو أن يُعير بها فيما بعد، لكن حصلت مبالغة شديدة حتى قتلها.

العرب عرفوا بالكرم، الكرم الشديد، أنتم عارفين، وكانوا يتغنون بحاتم الطائي. عرفوا برعاية الجوار، رعاية الجوار وأداء الأمانة. وضربوا المثل في هذا بالسموأل، السموأل هذا كان في قلعة، فترك عنده امرؤ القيس وديعة، يعني ترك عنده أهله وأسلحته. فجاء عدو لامرئ القيس يريد أن يأخذ هذه الأسلحة، فالسموأل رفض, فهذا العدو أمسك بولد من أولاد السموأل وقال له: "إما أن تؤدي إلي أسلحة امرئ القيس أو أن أقتل ولدك." فقال له: "اقتل ولدي فلست بخائن أمانتي." فذبحه بالفعل أمامه، فضرب به المثل في الوفاء.

لذلك العرب كانوا يتغنون بهذا، والسموأل نفسه له قصيدة من عيون الشعر العربي يقول فيها:

"تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا

فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ

وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا

شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ

وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا

عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ."

يعني نحن قليل فعلًا لكن أي حد يدخل في جوارنا لا يمكن أن يُوصل إليه.

"يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا

وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ

وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ

وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ"

ما حدش مننا بيموت كده على فراشه، ولا نترك ثأر من مات. في قصيدة مشهورة ارجعوا إليها اقرأوها.

وتسمعون قول عنترة، عنترة وهو مثلًا يصف عفته فيقول:

"إني امرؤ سمح الخليقة ماجد،

لا أتبع النفس الجوج هواها،

أغشى فتاة الحي عند حليلها،

وإذا غزا في الجيش لا أغشاء،

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي،

حتى يواري جارتي مأواها."

"ما اِستَمتُ أُنثى نَفسَها في مَوطِنِ

حَتّى أُوَفّي مَهرَها مَولاها"

"وَأُجيبُها إِمّا دَعَت لِعَظيمَةٍ

وَأُغيثُها وَأَعِفُّ عَمّا ساها"

فأخلاق العرب التي جعلتهم أقرب لرسالة الإسلام هي أن الأخلاق، يعني كثير من الأخلاق الرديئة التي فيهم كانت فرعًا عن أخلاق حسنة أصلاً، ثم جاء الإسلام بإصلاح هذه الأمور.

طبعًا هنا تنبيه مهم لا يفوتني أن أقوله. من يقرأ فعلاً في تاريخ أخبار العرب في الجاهلية يتحسر أن هؤلاء القوم لم يُسلموا لما يراه من صدقهم وشرفهم وأمانتهم وصراحتهم وبسالتهم. لكن حصل أنه في بعض الباحثين المعاصرين أو حتى الباحثين القدماء أيام القومية العربية ما كانت طاغية، كان من أجل أن يجمل العرب فكان يُخفّض شأن الإسلام. العرب صحيح كان فيهم هذه الصفات الجيدة، لكن كان فيهم مشاكل وبلاوي أخرى، أهمها الوثنية كما ذكرنا. ولذلك الصحابة عبروا عن الجاهلية التي كانوا فيها.

سيدنا جعفر! طيب إذا عند سيدنا جعفر نتوقف إن شاء الله ونستكمل في المرة القادمة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.