السيرة النبوية | 15. كيف وجدت الأصنام من يدافع عنها؟ وهل في عصرنا الآن أصنام؟!
السلام عليكم ورحمة الله، بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
اللهم اجعل عملنا كله خالصا لوجهك الكريم، ولا تجعل لأحد سواك فيه شيئا يا رب العالمين. رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. هذا المجلس الخامس عشر من مجالس السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بها، وأن يحشرنا جميعا في ظل عرشه ومع نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم. ما زلنا في اللحظة الأخطر في السيرة النبوية. التوقف عند هذه اللحظة الأخطر في السيرة النبوية، هو توقف ضروري لفهم هذه السيرة النبوية. وكنت قد ذكرت وأكرر بأنه من لم يفهم هذه اللحظة حق الفهم، فإنه لا يفهم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدا، وكيف لقي صعوبات شديدة؟ قد لا يفهم السيرة نفسها.
يعني الآن نحن في مجتمع يمكن أن تظهر فيه آراء أخرى، أحزاب أخرى، حركات أخرى، أفكار أخرى. إذا لم يكن لديك الفهم لماذا كانت هذه الفكرة على وجه التحديد فكرة صادمة جدا لكفار قريش، فأنت لن تستوعب، يعني ستشعر أن قريشا ستشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى أمر يمكن قبوله ويمكن رفضه، يعني يمكن التسامح معه. فتشعر أن قريشا يعني ناس متشددة أو ناس متطرفة، أو يعني مش هتبقى فاهم هو ليه المشكلة دي كلها. يعني ما الفارق بين التوحيد والشرك؟
حقيقة الفارق بين التوحيد والشرك أمر لا يفهمه أبناء المجتمعات العلمانية، لأنه إذا كنت مسلما أو كنت كافرا أو كنت ملحدا أو كنت مسيحيا أو يهوديا، هذه مسألة لا يستوعب أبناء المجتمعات العلمانية لماذا تكون أصلا مشكلة؟ طالما أن الكل موجود في الدولة وعنده حق المواطنة وملتزم بالدستور والقانون، تمام؟ وبالتالي فحقيقة هذه اللحظة، لحظة الدعوة الجهرية، هي لحظة نسميها اللحظة الأخطر في السيرة النبوية.
تكلمنا في المرة الماضية، وذكرنا أنه لكي نقبض على هذه اللحظة ونحاول فهمها، ذكرنا أن يعني أخذناها من جانبين. جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا أن النبي في ذلك الوقت كان يملك أربعة أشياء: يملك النسب العريق، ويملك التاريخ المشرف، ويملك الدعوة الأخلاقية، ويملك عددا من الأتباع اتبعوه في خلال السنوات الثلاثة التي كانت والدعوة الخاصة. وذكرنا أن النبي كان لديه نظريا بعض بدائله، مثل أن يطلقها دعوة قومية، أو يطلقها دعوة أخلاقية، أو يطلقها دعوة طبقية.
ولكن كل هذه المبادئ كانت في النهاية تستبدل شرا بشر، وفسادا بفساد. والبداية من الدين هي بداية جوهرية لكي يصلح الناس، فلا نستبدل طاغوت فارسي أو رومي بطاغوت عربي. لا نستبدل طبقة غنية بطبقة فقيرة، فإذا اغتنت صارت مثلها أو أشد منها في الشر. والدعوة الأخلاقية، ذكرنا أنها بطبيعتها لا يستجيب لها إلا أقل الناس، وهي عمليا غير مؤثرة في الحياة. وأكبر دليل على ذلك هو واقعنا الذي نحن فيه، مليء بمنظمات حقوق الإنسان، حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق الحيوان، وحقوق البيئة. ومع ذلك كل هؤلاء عمليا هم مجرد آلات عد وإحصاء للقتلى والمنتهكين والجرحى والمضطهدين.
ثم ذكرنا أنه كيف رأت قريش هذه اللحظة، وكيف سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم كلمة "لا إله إلا الله"، وأنها فهمت من اللحظة الأولى أن هذه الكلمة ليست مجرد دين جديد أو فكرة جديدة أو معبود جديد يضاف إلى المعبودات الكثيرة الموجودة في مكة، وإنما كانت دعوة لتبديل تغيير النظام الذي يقوم عليه مجتمع قريش.
طيب وبالتالي فالفارق بين كل هذه الأديان وكل هذه الأفكار التي قبلتها قريش، وبين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المساس بالنظام. هو إيه؟ المساس بالنظام. هذا الأمر يجب أن يكون مفهوما. فهذه الكلمة، كلمة "لا إله إلا الله"، لم تكن مجرد فكرة جديدة، وإنما كانت، يعني لو احنا بنحاول نقربها بمصطلحنا المعاصر، كانت خروجا على الدستور، خروجا على القانون، خروجا عن التقاليد، خروجا على الأعراف، خروجا على الأمور المستقرة. فلذلك واجهتهم، ولذلك قريش واجهت هذه الدعوة بأشد مما واجهت به أي دعوة أخرى. واضح؟
هنا يأتي سؤال مهم: النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لقريش: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، واتركوا عبادة الأوثان". الأوثان دي لا تسمع ولا تضر ولا تبصر ولا تنفع، صح ولا لأ؟ حد عنده شك في كده يا إخوانا؟ الأصنام، صح ولا لا؟ الأصنام لا تسمع ولا تبصر، صح؟ لا تنفع ولا تضر. حد عنده شك في كده؟ مش القصة دي واضحة جلية بالنسبة لنا؟ واضح، يعني تبدو المسألة مسألة بديهية. كيف، كيف الإنسان يعبد شيئا هو صنعه بيده؟ هو نفسه إذا جاع غلبته ضرورة الحياة فأكل إلهه الذي كان يعبده قبل قليل. ذكرنا ذلك حين تحدثنا عن شأن الجاهلية.
إذا تبدو الفكرة واضحة بسيطة، يعني الإنسان يجب أن يندهش حين يجد أن الأصنام وجدت من يدافع عنها، بل وجدت من يقاتل في سبيلها. أليس هذا شيئا مدهشا؟ الأصنام، الحجارة، الأخشاب المصنوعة، وجدت من يدافع عنها، ووجدت من يقاتل في سبيلها، ويقتل من أجلها. وكل حروب النبي صلى الله عليه وسلم دي كانت حروب مع مين؟ مع المؤمنين بالأصنام والأوثان.
لذلك يا جماعة الخير يجب أن نكون أكثر عمقا. هل، هل كان العرب، أو هل كان الناس على هذا القدر من الحمق والسفاهة؟ هنا يجب أن نتأمل في هذا. أي مجتمع ينقسم بشكل عام بين قلة كبيرة غنية متنفذة، وبين عدد كبير من عموم الناس. لو احنا حاولنا نشوف هؤلاء القلة الكبيرة، القلة ذات المال والثروة والجاه، هذه القلة كانت تدافع عن الأصنام، لماذا؟ مستفيدة من إيه أصلا؟ اه، يبقى الأصنام دي لم تكن مجرد أحجار لا تنفع ولا تضر. الأصنام دي كانت رمز النظام القائم.
الأصنام كانت رمز النظام القائم. طبيعة النظام القائم، شكل النظام القائم. الأصنام صحيح لا تسمع ولا تبصر، صحيح لا تنفع ولا تضر، لكن هي بالنسبة للكبار هي أيضا لا تأمر ولا تنهى، لا تكلف ولا تعاقب، صح ولا لا؟ وبالتالي فمن الذي سيتكلم باسم الأصنام؟ يعني من الذي سيتكلم عن الآلهة؟ إرادة من التي ستسير شأن المجتمع على اعتبار أن هذه هي إرادة الآلهة ورغبة الآلهة ومشيئة الآلهة؟ هؤلاء الكبار المتنفذين. يبقى هنا الأصنام لم تكن مجرد حجارة، الأصنام كانت نظاما، تمام؟
ولذلك يرى الكبار المتنفذين، أهل الثروة والسلطة، أن إزاحة هذه الأصنام ليست مجرد إزاحة لحجر أو شجر أو أخشاب، وإنما هي إزاحة لإيه؟ لنفوذهم هم، تمام؟ وهنا يعني خلينا، يعني يجب أن نتأمل في هذا. الآن ذكرته في المرة الماضية أن طبيعة المجتمعات، كما يقول نيتشه، القانون هو التعبير عن رغبة الأقوياء، التعبير عن رغبة الأقوياء. يعني الأقوياء في لحظة انتصارهم جعلوا انتصارهم هذا قانونا، فصارت مصالحهم مغطاة به، القانون بالدستور بالشرعية. فبالتالي أي حد هيجي يمس القانون، هو في الحقيقة مش بيمس مادة من المواد أو مش بيمس ورقة من الأوراق مكتوبة، هو بيمس إيه؟ المصالح، المصالح الموجودة خلف هذه.
ولذلك في كل مدارس القانون، حتى الغربية، يجب على المواطن إطاعة القانون، حتى لو أنه كان يرى أن هذا القانون غير عادل. وبالفعل ممكن نكتشف بعد شوية أن القانون غير عادل ونغيره، بس لن نعفو عن الذي خالف القانون أيام كان ساريا. وهناك مقال جميل للشيخ إبراهيم السكران فك الله أسره، اسمه "طاعة ولي الأمر في النظم الغربية، طاعة القانون غير العادل في النظم الغربية". جميل جدا، يمكنكم أن ترجعوا إليه وتقرأوه.
فالإنسان المواطن الحديث، المواطن في الدولة مكلف بطاعة القانون حتى لو كان يراه غير عادل، وحتى لو اكتشفت الدولة نفسها أن القانون غير عادل، فهي تغير القانون لكنها لا تعفو عمن خرق القانون. تمام؟ طيب إذا المصالح التي كونت قانونا، والمصالح التي كونت عقائد صارت مهددة حين تهدد هذه العقائد. يبقى حقيقة الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسلمين، ما كانتش على مجرد أخشاب أو حجارة. أي بين المشركين والكافرين، ما كانتش مجرد خناقة على إيه؟ أو ما كانتش مجرد صراع أو صدام على إيه؟ على معنى الخشب ومعنى الحجارة، إنما كانت صراعا على لمن المرجعية؟ لمن السيادة؟ الأصنام دي ليس لها مرجعية، ليس لها رؤية، ما بتقولش ده صح وده غلط، لا تقول ده حلال وده حرام. وبالتالي فأصحاب القوة والنفوذ هم الذين يحكمون على الحقيقة، ولكن بغطاء هذا النظام.
تمام؟ ده كده إيه؟ رقم واحد، وهذه هي الجزء الأهم. رقم اثنين، وهذا أمر مهم جدا لا يقل عن الأول، أنه يا جماعة الخير حتى هؤلاء الكبار منهم مع طول الأمد من يؤمن بهذه الأصنام إيمانا حقيقيا. وهنا يجب أن نتوقف وقفة كبيرة عند عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب. ذكرت في المرة الماضية أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع أهله، فيما يرويه أهل السير، وقال له: "لو غررت الناس"، قال: "إن الرائد لا يكذب أهله، ولو غررت الناس كلهم ما غررتكم، ولو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم، فوالله إني لرسول الله، ولا، ولا تموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان حسنا وبالإساءة سوءا، وأنها لجنة أبدا أو نار أبدا". فرد عليه أبو لهب الرد المعروف، ولكن قال أبو طالب: "بل امض لما ترى، فوالله ما أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا توافقني على ترك دين عبد المطلب".
من خلال ما قرأناه وما عرفناه عن أبي طالب، يا جماعة الخير، أبو طالب ضحى بنفوذه، وضحى بمكانته، وتعرض للصدام مع قومه من أجل ابن أخيه، تمام؟ ودافع عنه عشر سنوات، مات سنة عشرة من البعثة، أبو طالب. إذا أبو طالب هنا ليس الرجل الذي كان يؤيد مصالحه ونفوذه من خلال وجود الأصنام، ولكن لما طال عليه العهد، لما طال عليه الأمد، الجماعة الكبار لا يتصورون في العادة أنهم كانوا مخطئين، يصعب عليهم جدا أن يستوعبوا أنه عاش حياته كلها على باطل، صعب جدا جدا، تمام؟
وحتى إلى آخر حياته، النبي صلى الله عليه وسلم كان على فراش موته يقول له: "يا عم، قل كلمة أشهد لك بها أمام الله، قل لا إله إلا الله"، وحوله ملأ قريش يقولون له، يقولون له: "تفارق دين عبد المطلب، تفارق دين عبد المطلب". حتى مات وهو يقول: "بل على دين عبد المطلب". لا يوجد أحد في كل التاريخ نفع الإسلام كما نفعه أبو طالب، يعني ما فيش إنسان غير مسلم ولا مسلم حتى نفع الإسلام في هذه الفترة كما نفعه أبو طالب.
لو حسبنا يا جماعة الخير كل التضحيات، لن تبلغ التضحية التي ضحى بها أبو طالب أيام كان الإسلام إيه؟ في أول أمره ضعيفا. يعني النبي صلى الله عليه وسلم عاش عشر سنوات في حماية من؟ في منعة من؟ لماذا لم يجترئ عليه أهل قريش؟ لماذا؟ لوجود أبو طالب فقط. فلا يوجد أحد يستطيع أن يخدم الإسلام كما خدمه أبو طالب، ولكن لم تستطع نفس أبي طالب أن تفارق دين آبائه وأجداده.
يبقى بداية المصالح عملت عقائد، العقائد مع طول الزمن تصير عقائد حتى لو ما فيش مصالح. تمام؟ المصالح في البداية أنتجت عقائد، لكن العقائد إذا استقرت مع طول الزمن تصير عقائد حتى لو انتفت المصالح. ولذلك حتى تأمل في قوله: "بل على دين عبد المطلب". هو مش متصور أن هذا السيد الكبير الأجل الذي انفرد بالسيادة في مكة كان على باطل.
وعتبة بن ربيعة لما هيكلم النبي صلى الله عليه وسلم كما سنأتي إليه إن شاء الله في وقته، يقول له: "يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟" سؤال محرج. وقد ذكرنا قبل ذلك في الحلقات السابقة أن عبد المطلب هذا كان بمثابة الشخصيات، يعني ذات التاريخ الكبير، الشخصيات الأبطال التاريخيين التي يتهيب الناس أن يخالفوها. ذكرنا كده مثلا أن هو إذا حابين نقرب الصورة هيبقى زي مثلا عبد العزيز في السعودية، زي الخميني في إيران، زي أتاتورك في تركيا. الشخص الذي إيه؟ مخالفته تعد جريمة. فلذلك يقول عتبة: "يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟ فإن كانوا خيرا منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت خيرا منهم فتكلم نسمعك". يعني، كما نقول باللهجة المصرية، وريني نفسك تقدر تقول أنا خير منهم. رسوخ، رسوخ الباطل يحوله إلى عقيدة، ولو انتفت المصلحة.
طيب إذا كان هذا حدث في الكبار، في ظهر هذا بشكل أشد وأقوى وأرسخ وأظهر في عموم الناس. شوفوا يا جماعة الخير قاعدة ذهبية في الاجتماع البشري: ما تكرر تقرر، ما تكرر تقرر. يعني إيه؟ ببساطة شديدة، أي فكرة مهما كانت خرافية إذا سمعتها كتير ستؤمن بها، مهما كنت، ما حدش، يعني إيه؟ ما حدش يستثني نفسه من هذا الموضوع. وأنا هحكي لك حتى بأمثلة بسيطة جدا.
أنا أتذكر مثلا، يعني أيام ما كنا في المراهقة وما قبلها، كان ممكن مثلا تسمع الأغنية لأول مرة فتنفر منها ما تعجبكش، لكن إذا تكررت عليك، تسمعها في المواصلات، تسمعها في البيت، تسمعها في الشارع، تسمعها في الدرس، بيحصل إيه؟ بتحفظها غصب عنك، وقد تتعلق بها رغم أن أنت أولا إيه؟ كنت نافرا منها. كم مرة قابلت في حياتك واحد فنفرت منه، فلما جالسته وأكلته وشربته تعودت عليه وألفته، بل ربما أحببته وتعلقت به. كل فكرة، كل فكرة طالما تكررت تمكنت. ولذلك يقولون في المثل المصري: "الزن على الودان أمر من السحر"، وهذه وهذا حق، هذا حق.
وطبعا الآن في عالمنا المعاصر بعدما صار لدينا وسائل إعلام، فوسائل الإعلام هذه أثبتت هذه القاعدة إثباتا لا مزيد عليه. تذكر أيام كانت انتخابات أوباما، فحصل استفتاء في المجتمع الأمريكي، الاستفتاء كان بيقول: "هل، هل الإنسان يتأثر أكثر بالأقوال ولا بالأفعال؟" أنتم عارفين زمان كان أسلافنا يقولون: "فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل". الكلام ده ينفع يبقى زمان. الآن هذه الإحصائية تقول إنه في الآخر الناس بتتأثر بالأقوال أكثر من الأفعال. ولذلك يستطيع أشد الناس قسوة ووحشية وإجراما بحملة إعلامية وحملة تلميع وتقديم بعض التبريرات، وشوية من الموسيقى التصويرية والكاميرات والأغاني أن يمسحا تاريخه السيء. حقيقة هذا واقع.
فأنا بقول لك حتى هذه إحصائية أجنبية أن الناس بتتأثر بالأقوال أكثر من الأفعال. وبعضهم يقول إنه حتى كتاب خطابات الرؤساء الأمريكان يحسبون السكتات والوقفات واللحظات التي ينبغي أن فيها المرشح وهو بيقول خطبته، نعم. وبعد كده طبعا إيه؟ مع مشاهد التصفيق والتصوير البطيء والموسيقى المصاحبة. بلاش أنا أقول لكم على حاجة.
الناس كلها دلوقتي بتسمع الكورة، أنا مش عارف البطولة اللي شغالة خلصت ولا لسه؟ كأس الأمم الآسيوية دي، أنا عايزك تجرب أنك تتفرج على ماتش الكورة من غير صوت، يعني اقفل الصوت اتفرج عليه من غير صوت. أزعم أنك مش هتستحمل تقعد ساعة ونص قدام الماتش، وهو من غير صوت. طيب ما الذي يحدث لما بتفتح الصوت؟ إيه اللي بيخلي الماتش ده غير المحتمل بقى معركة؟ والمعلقين يتبارون في إسباغ الألقاب وألقاب المعارك، وخطير، وما حصلش، وأنت تكتب التاريخ وأنت تصنع الجغرافيا، ويتفنون فيها. إيه ده! إيه يا إخواننا؟ يا جماعة الخير كل فكرة مهما كانت هرائية وخرافية إذا تكررت تمكنت وترسخت واستقرت.
ولذلك وجدت الأصنام من يدافع عنها، لذلك وجدت الأصنام من يدافع عنها. لأن هؤلاء نشأوا في بيئة آباؤهم وأمهاتهم، مشايخهم وأساتذتهم، حكماؤهم وفرسانهم ومقاتليهم كلهم عبدوا هذه الأصنام، وقدموا لها النذور، وذبحوا عندها القرابين. فأنت تأتي لكي تقول هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، دعوها واكسروها، أنت كأنك تكسر في داخل الإنسان هدما كبيرا، شيء بنيت عليه نفسه. واضح؟ فبالتالي الكبار يدافعون عن الأصنام لأن الأصنام رمز نظام يحافظ على مصالحهم. ومن الكبار من طال به العهد وطال به الزمن حتى دافع عن الأصنام ولو فاتت المصلحة. وعموم الناس تبع للكبار منهم، وما تكرر عليهم تقرر وثبت في أنفسهم، تمام؟
فمن هنا يمكنك أن تفهم كيف كانت المعركة معركة شديدة جدا في مكة، دفاعا عن الأصنام التي قد لا يتصورها أحد أن الأصنام قد تجد من يدافع عنها. الآن لو احنا تأملنا أو حاولنا ننظر من وجهة نظر قريش، ما المصالح التي كانت عند قريش تجعلها تدافع عن عبادة الأصنام؟ أول شيء يعني واضح جدا وهو النفوذ. الرئاسة، الزعامة، أنتم عارفين آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرئاسة، تمام؟ الرئاسة دي منتهى اللذائذ والغرائز. يعني من الناس من شهوته في النساء، الرئاسة عندها نساء. من الناس من شهوته في المال، الرئاسة عندها مال. من الناس من شهوته في الشهرة، الرئاسة عندها شهرة. الرئاسة دي منتهى اللذائذ والغرائز.
ولذلك تجد المرء يزهد في المأكل ويزهد في المشرب ويزهد في الملبس، لكن إذا نوزع على مقامه انتفض واقفا. أنتم عارفين هند بنت النعمان، هندي بنت النعمان بنت ملك الحيرة، لها بيت شعر يصير أصلا مضربا للمثل، كانت تقول: "فبين نسوس الناس والأمر أمرنا، إذا نحن فيهم سوقة متنصف". يعني إيه؟ بتقول الدنيا دي غدارة، ويعني تتقلب بأهلها. فشوف نقلاتنا من إيه؟ نقلتنا من: "بينما نسوس الناس والأمر أمرنا، إذا نحن فيهم سوقة" ده احنا بقينا زيهم نتنصف، يعني ممكن واحد يشتكينا ويسمع له ويقبل منه ويؤخذ منا الحق. هذا أمر لا يطيقه الرؤساء ولا يطيقه الملوك.
سيدنا معاوية كانت له كلمة تعب عظيمة جدا تعبر عن نفسية السلطان. سيدنا معاوية طبعا مشهور بالحلم، والحلم في السلاطين والملوك نادر، نادر جدا أن تجد القادر على البطش حليما. هذا شيء نادر جدا. فسيدنا معاوية يعني تجرأ عليه أحدهم، فلما زاد في تجرؤه قال: "يا فلان إن السلطان يغضب غضبة الصبي، ويبطش بطشة الأسد". السلطان ده استفزازه سهل زي الصبي، لكنه إذا بطش بطش بطشة الأسد. فأمر لا تطيقه الملوك أن تنزل عن مكاسبها. ولذلك ابن خلدون يقول: "الملك قل أن يسلمه أحد بلا قتال". الملك قل أن يسلمه أحد بلا قتال.
وإذا كان الناس الموظفين بيتخانقوا على مواقعهم في الشركة، مواقعهم في المصنع، فكيف بالذي يملك أن يأمر وينهى؟ فأول مصلحة يهددها زواج الأصنام هي مصلحة الرئاسة والزعامة، وهذا أمر مهم. أنك تقول لواحد، يعني زي دلوقتي واحد عنده مليون جنيه أو عنده عقار ضخم هو يملكه، ثم جاءه من يثبت له أن هذه الأرض أرضه وهذا العقار عقاره، أي الناس تسمح نفسه بأن يخضع للحق وينزل عن هذا؟ طيب إذا كان ده في مليون جنيه، ولا إذا كان في عقار، كيف بالبلد؟ عمركم شفتم حد بينزل عن عقار ولا شقة ولا؟
تمام؟ نعم، طبيب الفلاسفة ده وضع تاني، هو يعني بيتنازل بمزاجه. المهم، اه، فالأصل، الأصل هو أن أصحاب الرئاسة لا يقبلون بالنزول عن مكاسبهم.
المصلحة الثانية مصلحة التجارة. أنت دلوقتي عندك 360 صنما حول الكعبة، وكانت العرب، يعني أحد أشكال زعامة قريش بين العرب، هو أنه لكل قبيلة من قبائل العرب صنمها المعبود موجود في الكعبة. فإحنا كأننا هنا في إيه؟ مجمع الآلهة، أو المعبد الأكبر، تمام؟ طيب وبعدين، إحنا عمالين نصنع أصنام، ده إحنا عندنا الكعبة لوحدها فيها 360 صنما، لكن العربي كان لكل قبيلة صنم، ولكل بيت صنم. وإذا خرج إلى السفر. فإحنا دلوقتي عندنا صناعة هائلة، وهي صناعة الأصنام، وعندنا جماعة من الفنانين والنحاتين المتقنين. ما هي أي صناعة مطلوبة لازم إيه؟ تنشئ مهارتها. زي دلوقتي أي مرشح إسلامي يترشح في أي بلد، أول سؤال: تعمل إيه في الخمر؟ تعمل إيه في السياحة؟ الحاجات دي قائم عليها الاقتصاد، ولا أنت هتدمر الاقتصاد المصري أو غير المصري؟ يعني أيا ما كان. لكن القصد هنا أنه أيضا المصلحة التجارية تجعل حتى من كان يرى ويعتقد أن ما جاء به محمد هو الحق، فالحق ده والله مضر دلوقتي، مضر ومكلف.
وقد ذكر الله ذلك في كتابه، فقال: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ ) [القصص:57]. فأقروا، فأقروا أنه هدى، تمام؟ ولذلك، وهذا كلام تكرر حتى لدى المعاصرين، من يقرأ منكم بعض المذكرات، أولها اختلاط ببعض المشايخ الذين قابلوا رؤساء وملوك، ويقول له هذه الكلمة. يقول له: "يعني أنت دلوقتي عايزني أطبق الشريعة، وأمريكا هتسيبني في حالي؟ (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)"، وبالتالي في كمان مصلحة تجارية، كيف نوقف هذه الصناعة الكبيرة؟ صناعة الأصنام التي يدور عليها الاقتصاد القرشي. كيف نوقف صناعة الخمر؟ كيف نوقف صناعة الميسر؟ أنت دلوقتي لو، لو حابب تقفل الأماكن اللي بتعمل مقامرة، أو اللي بتعمل زنا، أو، هتلاقي إيه؟ هتلاقيه كثيرا من الناس يخرج لك بالدافع الاقتصادي. فهذه أيضا أحد المصالح التي تهددها قريش.
طيب الأمر الثالث، المكانة السياسية المهددة. الآن ضع نفسك مكان قادة قريش، وجاءت رسالة دعوة فهموا منها من اللحظة الأولى أنها دعوة سياسية وليست دعوة دينية، وأنها دين ودولة. طيب أنا الآن موجود في الزعامة فعلا، وموجود في القيادة فعلا، والعرب يحجون البيت ويعظمون قريش ولا يجرؤون عليها. بالمنطق المادي الدنيوي، لماذا أقبل رسالة تثير علي عداء العرب؟ أنت عارف لما لو حين يتم إنشاء دولة في محيط غير قابل بها، إيه اللي بيحصل؟ حروب ونزاعات. يعني مثلا لما حصلت الثورة الفرنسية في أوروبا ونادت بالجمهورية، تعاون عليها كل ملوك أوروبا، لأن هم ملوك، ماذا يعني؟ حتى لو في ملكين أعداء، لكن يتعاونوا معا ضد الفكرة التي تود إزالة الملكية بالجملة، وتريد جمهورية.
لما حصلت ثورات الربيع العربي، كل من له مصلحة، حتى لو كانت الثورات لا تهدده، تواطأ عليها لكي يخمدها. فقريش الآن هي زعيمة العرب، فلماذا تتكفل وتحمل رسالة يثير، تثير عليها كل هذه الأعراف؟ المكانة السياسية مهددة بالزوال، وأن تنتقل زعامة العرب إلى غيرهم ممن سيدافع عن الأصنام، وكذلك تدخل هي في حروب. ولذلك ذكرت وأكرر كلمة عتبة بن ربيعة، وهو يقول: "يا معشر الناس، دعوا هذا الرجل، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم، وملكه ملككم، وكنتم أسعد الناس به". فالأعرابي فهم من اللحظة الأولى من كلمة "لا إله إلا الله" أنها دعوة دين ودولة. ولذلك أبو الهيثم ابن التيهان، كما في الإنصاف عند بيعة العقبة الثانية، وهو يقول: "يا معشر الناس انظروا على ما تبايعون هذا الرجل، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس".
والنبي حين كان يدعو ويعرض نفسه على القبائل كان يقول: "من يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؟" والنبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكرنا في الدعوة الجهرية، كان يقول: "قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم". فدعوة الإسلام ليست دعوة مستكينة ومستسلمة وراضية بالحياة في ظل سيادة أخرى، وإنما هي سيادة الله تبارك وتعالى على هذه الأرض. ولذلك يا جماعة الخير، إذا فهمنا هذا، فهمنا كيف كانت المعركة شديدة ومشتعلة، لأنها كانت معركة حول نظام، وليست مجرد معركة حول فكرة من الأفكار.
طيب الآن السؤال المهم، هل في حياتنا الآن أصنام؟ هذا هو، لو، لو أنك ترى أن الأصنام دي مجرد شيء كان زمان، وآه ومشي، فقد لا ترى أن عالمنا الآن محتاج إلى الإسلام، فمش كلنا، نعم، أي نعم. بس هنا، يعني إذا كان تصورنا عن الإسلام أنه الإسلام ضد الأصنام التي هي الحجارة والأخشاب، فكده الإسلام إيه؟ مرحلة وانتهت، وإحنا كلنا الحمد لله بنقول لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، وبنصلي وبنصوم. تمام؟ حقيقة لم تكن هذه هي المعركة. لذلك أقول لكم هذه اللحظة هي اللحظة الأخطر في السيرة النبوية. اللحظة الأخطر في فهم الإسلام، وفي فهم هذا الصراع المحيط به الآن.
كيف تعرف الصنم؟ الصنم هو الذي لا يقبل المساس به، تمام؟ كل شيء تشعر أنه لا يقبل المساس به، أو وأنت رايح تتكلم عنه بتتحسس كلامك، هذا صنم في حياتنا الواقعية. هذا في حياتنا الواقعية. طالما تتحسس من الكلام عنهم، فهنا في معركة سيادة بين هذا الصنم وبين الإسلام. الخط الأحمر، كويس؟ هذا يعني كلام تعبير مهذب ولطيف، الخط الأحمر. وإحنا الحمد لله عندنا خطوط حمر كثيرة. إحنا عندنا مثلا إيه؟ القضاء الشامخ، والقضاء، حد، حد يجرؤ أن يعلق على أحكام القضاء؟ يا جماعة القضاء الإيه؟ الشامخ. جيش مصر العظيم. بلاش الجيش، مش عايز أقول مصر، يعني عايز أقول أي جيش عظيم لا يقبل المساس به. أي حاجة يتحط وراها عظيم شامخ شريف نزيه، يعني تمام؟ أي شيء تتحسس من الكلام عنه فهو بمثابة الصنم، يعني مش للدرجة دي. تمام؟ وأشد هناك بقى الإيه؟ الأشياء التي نرى نحن الآن كيف يذبح الناس من أجلها: الحدود الوطنية، الأمن القومي، التراب الوطني، العلم، علم الدولة، هذه أشياء يذبح الناس من أجلها، ويموت الناس تحت عناوينها، تمام؟ التراب المقدس.
من لا يكتشف أن الإسلام الذي يجعل السيادة لله، ويجعل الخط الأحمر فقط هو الله ورسوله، من لا يكتشف أن الإسلام في معركة مع هذه الأوثان والأصنام المعاصرة، هو في حقيقة الأمر مش، لا ينتبه إلى معنى يسود حياتنا الواقعية. وأذكر لكم أن المستشرقين والغربيين يفهمون هذا أكثر بكثير من المسلمين، وهذا أمر مطرد. يعني من قرأ منكم مثلا كتاب "النظام العالمي" لهنري كيسنجر، هنري كيسنجر مات قبل شهرين تقريبا. كتاب "النظام العالمي" لهنري كيسنجر صريح، أنه هذا العالم، هو طبعا بيتكلم عن التهديدات، لكن حقيقة بيتكلم عن التهديد الإسلامي، باعتباره تهديد، اه، لا حل له. لأن الشريعة مختلطة بالعقيدة، فالأمم الأخرى ممكن أن أنت تعبد شمس تعبد قمر، وتعيش حياتك بقوانين الغرب أو القوانين التي يفرضها الغرب. لكن الإسلام تختلط فيه الشريعة بالعقيدة اختلاطا لا يمكنه الفكاك منه. طيب هذا الكلام ذكره هنري كيسنجر مثلا في كتاب "النظام العالمي".
أنا الآن سأذكر لكم شيء، مونتسكيو في الفيلسوف الفرنسي المشهور في كتابه "روح الشرائع"، أشهر كتبه، يقول بأنه: "التغلغل الإسلامي في حياة المسلمين لا شبيه له في أي دين آخر". اه، ذكرت تصميم في كتابه "صدام الحضارات"، "الإسلام هو الدين الوحيد الذي جعل بقاء الغرب محل شك". وقد فعل هذا لمرتين على الأقل. ارتباط العقيدة بالشريعة أحد المزايا العظمى في الإسلام، وهي بالنسبة لغير المسلمين أحد المعضلات العظمى في الإسلام، أنه لا، يعني حتى الآن محاولاتهم لصناعة إسلام معتدل، إسلام يوافق الحداثة، إسلام مدني ديمقراطي حديث، كل هذه عناوين مكتوبة ككتب ومنشور فيها. هذه أحد المعضلات الشديدة غير المحلولة، لأن الإسلام تختلط فيه العقيدة بالشريعة.
من يقرأ منكم مثلا سورة الشورى، سورة الشورى يا جماعة الخير، موضوعها هو النظام السياسي الإسلامي، حقيقة. وأهمها هو هذه السيادة. ولذلك بدأت: (كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى:3] (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى:4]. ثم جاءت وذكرت اختلاف الناس فيما أوحي إليهم. (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7]. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ۚ) [الشورى:13] (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ۚ) [الشورى:21] (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) [الشورى:38]. لكن أنت لما تقرأ سورة الشورى، تشعر أنك في نظام يرتبط فيه الحياة الكون التوحيد الملائكة الرزق بالنظام السياسي. فهذه وقفة مهمة لاستيعاب أن الإسلام في حقيقته حركة تغييرية ورسالة إصلاحية.
المهم لذلك نقول أن الخلاف الأساسي بين الإسلام وبين أي نظام آخر هو، هو خلاف السيادة، خلاف المرجعية. هذا الخلاف يا جماعة الخير ليس له إلا احتمال من اثنين: إما أن يكون الإنسان خاضعا لله، أو يكون خاضعا لغيره من البشر. البشر ده مستخبي ورا نظام وعقائد، مستخبي ورا أصنام، مستخبي وراء قوانين، مستخبي وراء دساتير، مستخبي وراء آلهة، أيا ما كان. لكن بالنهاية البشر في أي نظام آخر مستعبد للبشر. وهذه كلمة ربعي بن عامر رضي الله عنه حين كلم رستم، فقال: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد". هذه كانت مهمة واضحة جدا في أذهان الصحابة. استغرب علي بن حاتم لما سمع قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31]. فقال: "يا رسول الله ما عبدناهم، ما اتخذناهم أربابا". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحلون الحرام ويحرمون الحلال؟" قال: "نعم". قال: "فتلك عبادتكم إياهم". يبقى حقيقة، حقيقة الرب، حقيقة الإله، هو الذي يملك إيه؟ يملك التشريع، يملك أن يقول هذا صواب وهذا خطأ، هذا حق وهذا باطل، هذا حلال وهذا حرام، هذا قانوني وهذا غير قانوني، هذا دستوري وهذا غير دستوري. هذه حقيقة ثقة صاحب السيادة.
طيب الإنسان يا جماعة الخير لو خرج من عبادة الله، فهو بالتأكيد داخل في عبادة البشر، ما فيش احتمال ثالث. مثلا الإنسان الآن إذا قرر أن يعلن إلحاده، هو حين قرر أن يعلن إلحاده، ما الذي سيفعله في حياته؟ سيتحلل من الحلال والحرام الإسلامي، صح؟ قال له حرام بمعنى الشرع. لكن هل سيتحلل من عادات وتقاليد وقوانين المجتمع الذي يعيش فيه؟ مش هيتحلل. فبالتالي هو عمل إيه؟ وانتقل من عبودية الله إلى عبودية المجتمع، الدولة، البيئة التي هو فيها. البنت إذا أعلنت إلحادها، خلعت الحجاب، لبست القصير، الثياب التي سترتديها بعد إلحادها، ثياب مين عملها؟ الغرب الغالب الحالي، ولا هتروح تلبس ثياب هندية مثلا، ولا ثياب أفريقية؟ لو في الهند أو في أفريقيا هتلبس. لكن لذلك ابن القيم يقول: "الفرق أمر ضروري، فمن لم يكن فرقه ربانيا، يعني التفريق بين الأشياء، المعيار الصح والغلط، الحلال والحرام، أمر ضروري في كل بشر وفي كل مجتمع، ولا ده كل إنسان. لكن من لم يكن فرقه ربانيا، كان فرقه وضعيا، إما بسياسة سائس من فوقه، دي قوانين المجتمع أو الدولة، أو بذوق من عنده أو من عند غيره، شهوة، يعني شيء يستحسنه هو من نفسه، أو يستحسن له بالضغط الإعلامي والضغط الثقافي الموجود حوله. وهكذا، فبالنهاية لا، كل إنسان له مرجعية، كل إنسان له من يخضع له، عرف هذا أو، يعني عرف هذا أو لم يعرفه، شعر بهذا أو لم يشعر به. وكل الفارق بين الإسلام وبين غيره هو أن هذا مصروف لله تبارك وتعالى.
قبان. فلذلك ستجد أن كفار قريش كانوا أفهم للإسلام حقيقة من كثير من المسلمين المعاصرين. ولذلك هاجموه هذه المهاجمة. كثير من المسلمين لا يستوعب مثل هذه المعاني ولا يشعر بها. وهذه منقبة تضاف للسابقين الأولين، لأن السابقين الأولين أدركوا أن هذه الدعوة، دعوة "لا إله إلا الله" تنطوي على كل هذه المعاني التي يفارقون بها قومهم، ويدخلون بها في صدام مع قومهم، ومع آبائهم، ومع أمهاتهم، ومع تاريخهم. وهذا يا جماعة أمر صعب وأمر شاق جدا على النفوس. يعني لك أن تتصور أن واحد زي سيدنا خالد بن الوليد، رجل كان يقرأ في كتاب الله أن أباه في النار: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) [المدثر:11-17]. ثم قال تبارك وتعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) [المدثر:26-28]. عكرمة بن أبي جهل كان يدرك أن يؤمن بأن أباه في النار. وقد ذكرت لكم في مرة سابقة أنه سيدنا أبو حذيفة ابن عتبة ابن ربيعة رأى أمامه في غزوة بدر مقتل أبيه وأخيه وعمه. فهذه منقبة عظمى تضاف إلى السابقين الأولين أنهم فهموا هذه الدعوة وآمنوا بها والتحقوا بها من البداية رغم ما فيها من التكاليف.
طيب المهم الآن لو، لو نحن تأملنا القرآن الكريم، سنرى أن كفار قريش لم يكونوا معترضين على وجود الله. القرآن الكريم حافل بالآيات التي تقول: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان:25]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزخرف:87]. فالكفار قريش ما كانوش معترضين على إيه؟ على أن الله موجود، وعلى أن الله خلق. معترضين على إيه؟ على أمرين: على أن الله أمر ونهى، وعلى أن الله يحاسب يوم القيامة. فما كانوش عايزين يؤمنوا بيوم القيامة. ولذلك ستجد الحوار الطويل في القرآن الكريم معهم على مسألة البحث واليوم الآخر. ولذلك جاء الإسلام بالإيمان بالله واليوم الآخر. فهذا أمر مهم للغاية.
الكفار، كفار قريش لم يكونوا يعترضون على أن أحدا من الناس يؤمن، هم أنفسهم كانوا يؤمنوا بأن الله موجود، وأن الله خلق السماوات والأرض. يوما، أيوه، بس، بس هذا كان في إطار مساومة، لكن الآن قبل أن ندخل في المساومة أصلا، لم يكن ما صدمهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الله موجود، أو الله خالق". الذي كان صدمهم من، من النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لهم: "لا إله إلا الله"، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا". وهنا ستجد بقى إيه؟ يعني استخرج كفار قريش كل مواهبهم لمحاولة إنكار اليوم الآخر. يعني لم يكونوا يحاولون إنكار وجود الله قدر ما حاولوا إنكار وجود اليوم الآخر. وفي، وفي الرواية، إما أنه عقبة ابن أبي معيط، وإما أنه العاص ابن وائل، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظام قد بليت، ففركها في حجره، وقال: "أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد أن صارت رميما؟" فده المنهج العلمي، النزعة العلموية، المنهج العلمي بمثابة عند كفار قريش، كيف هذا يصير بشرا مرة أخرى؟
فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:78-83]. وفي آية سورة مريم يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66-67]. الإيمان باليوم الآخر كان هو التحدي الأكبر، لأنه الذي، أنتم عارفين في الفلسفة اليونانية يقولون في مقولة مشهورة تسمى "إله أرسطو" أو "إله أفلاطون". سبحان الله وقع الوهم مني، ولكن أزنه رزقه. مين إله أرسطو ده؟ الرزق كان لديه وجهة نظر تقول بأن الله عظيم جدا جدا جدا، لدرجة أنه أعظم من أن يفكر في خلقه، أو أن يدبر أمره. فهذا الكون هو بالنسبة لله كالساعة بالنسبة لصانع الساعة، صانع الساعة أتقنها، ووضع فيها قوانينها التي تسيرها، ثم تركها، ما عندوش علاقة بها دلوقتي. الإله ده إله حلو عند كل الناس على فكرة، ليه؟ ليس له حضور، لا أمر ولا نهي، وبالتالي لا حساب. لكن الإيمان باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر يجعل الله تبارك وتعالى صاحب أمر ونهي، وصاحب تكليف وحساب، تمام؟ ولهذا يا جماعة الخير يجب أن نفهم أنه، طب إيه معنى الكلام ده؟ يعني لو، لو إحنا بنحاول نقربها الآن لمصطلحاتنا المعاصرة، معنى الكلام ده أن كفار قريش كانوا علمانيين، لأن هو ما عندوش اعتراض، ما عندوش اعتراض أن أنت إيه؟ أنك تبقى مؤمن بالله، أو حتى هو ممكن يبقى مؤمن بالله.
إحنا الآن في عالمنا المعاصر، كثير من العلمانيين يرى أنه غير منافي للإسلام، وبعضهم يسمي نفسه ليبرالي على سنة الله ورسوله، تمام؟ هو شايف أن العلمانية دي طريقة لإدارة الحياة، والدين ده بين الإنسان وبين ربه. يعني لو أنا دلوقتي هتمثل أن جماعة قريش دول كانوا بيتكلموا بلسان اليوم، هيقولوا إيه؟ تصوروا معي كده، يعني لو إحنا في متحدث رسمي أو بلسان، لسان قريش، هيقف ويقول إيه؟ والله نحن في دولة مكة دولة تتسع لكل الأديان والمذاهب والطوائف، وما عندناش أي مشكلة أن محمد يبقى عنده الدين بتاعه. لكن إحنا بنحارب محمد علشان إيه؟ لأنه يريد إجبار الناس على عبادة إله واحد لا شريك له، وهذا مخالف للحقوق والحريات، ومخالف للدستور الذي وضعه المؤسسون العظام لقريش، الذين يشهد الجميع لهم بالحكمة وبالعقل. وبعدين يبدو أنها والله نزعة آآ طائفية أو نزعة قبلية، تريد بني هاشم أن تنقلب على السلطة، وتأخذ الحكم لنفسها، بدل ما إحنا في حكومة ائتلاف وطني، الناس كلها موجودة وبتحكم مع بعض. وزي ما قلت لك ده إيه؟ تعكير للسلم الاجتماعي، وضرب للوحدة الوطنية، صح ولا لا؟ كل هذا. طيب نستكمل المرة القادمة إن شاء الله. أسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما. والسلام عليكم ورحمة الله.